إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (150)

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } إليه في أسفارك ومغازيك من المنازل القريبةِ والبعيدةِ { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } الكلام فيه كما مر آنفاً { وحيثما كُنتُمْ } من أقطار الأرضِ مقيمين أو مسافرين حسبما يُعربُ عنه إيثارُ ( كنتم ) على خرجتم فإن الخطابَ عامٌ لكافة المؤمنين المنتشرين في الآفاق من الحاضرين والمسافرين ، فلو قيل : وحيثما خرجتم لما تناول الخطابُ المقيمين في الأماكن المختلفة من حيث إقامتُهم فيها { فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } من مَحالِّكم { شَطْرَهُ } والتكريرُ لما أن القِبلةَ لها شأنٌ خطير ، والنسخُ من مظانِّ الشبهةِ والفتنة فبالحَريِّ أن يؤكَّد أمرُها مرة بعد أخرى مع أنه قد ذُكر في كل مرة حِكمةٌ مستقلة { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } متعلقٌ بقوله تعالى : { فَوَلُّواْ } [ البقرة ، الآيتان : 144- 150 ] وقيل : بمحذوفٍ يدل عليه الكلامُ كأنه قيل : فعلنا ذلك لئلا الخ والمعنى أن التوليةَ عن الصخرة تدفع احتجاجَ اليهود بأن المنعوتَ في التوراة من أوصافه أنه يحوِّلُ إلى الكعبة ، واحتجاجُ المشركين بأنه يدَّعي ملةَ إبراهيمَ ويخالف قِبلتَه { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } وهم أهلُ مكةَ ، أي لئلا يكونَ لأحد من الناس حجةٌ إلا المعاندين منهم الذين يقولون ما تحوَّلَ إلى الكعبة إلا مَيْلاً إلى دين قومِه وحباً لبلده أو بَدا لَهُ فرجَع إلى قِبلةِ آبائِه ، ويوشك أن يرجِعَ إلى دينهم . وتسمية هذه الكلمة الشنعاء حجة مع أنها أفحش الأباطيل من قبيل ما في قوله تعالى : { حجتهم داحضة } [ الشورى ، الآية 16 ] حيث كانوا يسوقونها مساق الحجة ، وقيل : الحجة بمعنى مطلق الاحتجاج ، وقيل : الاستثناء للمبالغة في نفي الحجة رأسا كالذي في قوله : [ الطويل ]

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب{[81]}

ضرورة أن لا حجة للظالم ، وقرئ ( ألا الذين ) بحرف التنبيه على أنه استئناف { فلا تخشوهم } فإن مطاعنهم لاتضركم شيئا { واخشوني } فلا تخالفوا أمرى { ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } علة لمحذوف يدل عليه النظم الكريم أي وأمرتكم بما مر لإتمامي للنعمة عليكم لما أنه نعمة جليلة ولإرادتي لما أنه صراط مستقيم مؤد إلى سعادة الدارين ، كما أشير إليه في قوله عز وجل : { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة ، الآية 142 ، 213 . وسورة يونس ، الآية 25 . وسورة النور ، الآية 46 ] وفي التعبير عن الإرادة بكلمة لعل الموضوعة للترجي على طريقة الاستعارة التبعية - من الدلالة على كمال العناية بالهداية – ما لا يخفى ، أو عطف على علة مقدرة ، أي واخشوني لأحفظكم عنهم واتم الخ او على قوله تعالى : لئلا يكون الخ وتوسيط قوله تعالى : فلا تخشوهم الخ بينهما للمسارعة الى التسلية والتثبيت ، وفي الخبر : " تمام النعمة دخول الجنة " وعن علي رضي الله عنه : " تمام النعمة الموت على الاسلام " .


[81]:البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 44 وخزانة الأدب 3/327، 331، 334؛ والدرر 3/173 وهمع الهوامع 1/232 وقد ساقه صاحب الهمع بلفظ بيد بمعنى غير وقد ورد في المعجم المفصل بلفظ صراع بدل قراع؛ وبلا نسبة في لسان العرب 8/565 (قرع)؛ 11/530 (فلل) ومغني اللبيب ص 114.