إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{أَوَمَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (122)

{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا } وقرئ ميِّتاً على الأصل { فأحييناه } تمثيلٌ مَسوقٌ لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين إثرَ تحذيرِهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون خابطون في ظلمات الكفرِ والطغيانِ فكيف يُعقل إطاعتُهم لهم ؟ والهمزةُ للإنكار والنفي ، والواوُ لعطف الجملةِ الاسميةِ على مثلها الذي يدل عليه الكلامُ ، أي أأنتم مثلُهم ومَنْ كان ميتاً فأعطيناه الحياةَ وما يتبعُها من القوى المُدْرِكة والمحرِّكة ؟ { وَجَعَلْنَا لَهُ } مع ذلك من الخارج { نُوراً } عظيماً { يَمْشِي بِهِ } أي بسببه ، والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فماذا يصنع بذلك النورِ ؟ فقيل : يمشي به { في الناس } أي فيما بينهم آمِناً من جهتهم أو صفةٌ له { كَمَن مَثَلُهُ } أي صفتُه العجيبةُ وهو مبتدأ وقوله تعالى : { في الظلمات } خبرُه على أن المرادَ بهما اللفظُ لا المعنى كما في قولك : زيدٌ صفتُه اسمرُ ، وهذه الجملةُ صلةٌ لمن وهي مجرورةٌ بالكاف وهي مع مجرورها خبرٌ لمن الأولى وقوله تعالى : { لَيْسَ بِخَارِجٍ منهَا } حالٌ من المستكن في الظرف وقيل : من الموصول أي غيرُ خارجٍ منها بحال ، وهذا كما ترى مثلٌ أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلاً كما أن الأولَ مثَلٌ أريد به من خلقه الله تعالى على فطرة الإسلامِ وهداه بالآيات البينةِ إلى طريق الحقِّ يسلُكه كيف يشاء لكن لا على أن يدل على كل واحدٍ من هذه المعاني بما يليق به من الألفاظ الواردةِ في المثَلين بواسطة تشبيهِه بما يناسبه من معانيها ، فإن ألفاظَ المثَلِ باقيةٌ في معانيها الأصلية ، بل على أنه قد انتُزعت من الأمور المتعددةِ المعتبرةِ في كل واحدٍ من جانبي المَثَلين هيئةٌ على حِدَة فشُبِّهت بهما الأُوليان ونُزّلتا منزلتيهما فاستُعمل فيهما ما يدل على الأُخْريين بضرب من التجوّز ، وقد أشير في تفسير قوله تعالى : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ } [ البقرة ، الآية 7 ] إلى أن التمثيلَ قسمٌ برأسه لا سبيل إلى جعله من باب الاستعارةِ حقيقةً وأن الاستعارةَ التمثيليةَ من عبارات المتأخرين . نعم قد يجري ذلك على سنن الاستعارةِ بأن لا يُذكرَ المشبّه كهذين التمثيلين ونظائرِهما وقد يجري على منهاج التشبيه كما في قوله : [ الطويل ]

وما الناسُ إلا كالديار وأهلُها *** بها يوم حلُّوها وغدواً بلاقعُ{[233]}

{ كذلك } أي مثلَ ذلك التزيينِ البليغ { زُيّنَ } أي من جهة الله تعالى بطريق الخلق عند إيحاءِ الشياطينِ أو من جهة الشياطينِ بطريقة الزخرفةِ والتسويلِ { للكافرين } التابعين للوساوس الشيطانيةِ الآخذين بالمُزخْرَفات التي يوحونها إليهم { مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ما استمرّوا على عمله من فنون الكفرِ والمعاصي التي من جملتها ما حُكيَ عنهم من القبائح فإنها لو لم تكن مُزينةً لهم لما أصروا عليها ولما جادلوا بها الحقَّ ، وقيل : الآية نزلت في حمزةَ رضي الله عنه ، وأبي جهلٍ وقيل : في عمرَ أو عمارٍ رضي الله عنهما وأبي جهل .


[233]:البيت للبيد في ديوانه ص 169؛ وأمالي المرتضى 1/453؛ وشرح المفصل 6/4؛ والشعر الشعراء 1/284؛ ولسان العرب (غدا)؛ ولذي الرمّة في ملحق ديوانه ص 1887؛ وبلا نسبة في الكتاب 3/358؛ وخزانة الأدب 7/479.