إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ إِذۡ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيۡءٖۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورٗا وَهُدٗى لِّلنَّاسِۖ تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِيرٗاۖ وَعُلِّمۡتُم مَّا لَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنتُمۡ وَلَآ ءَابَآؤُكُمۡۖ قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ يَلۡعَبُونَ} (91)

{ وَمَا قَدَرُوا الله } لما بيَّن شأنَ القرآنِ العظيم وأنه نعمةٌ جليلةٌ منه تعالى على كافة الأمم حسبما نطَقَ به قولُه تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء ، الآية 107 ] عقّب ذلك ببيان غمْطِهم إياها ، وكفرِهم بها على وجْهٍ سرَى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية ، وأصلُ القدْر السبْرُ والحزْرُ ، يقال : قدَر الشيء يقدرُه بالضم قدْراً إذا سبَره وحزَره ليعرِف مقداره ثم استُعمل في معرفة الشيء في مقداره وأحوالِه وأوصافِه . وقوله تعالى : { حَقَّ قَدْرِهِ } نُصب على المصدرية ، وهو في الأصل صفةٌ للمصدر أي قدْرَه الحقَّ ، فلما أضيف إلى موصوفه انتصبَ على ما كان ينتصبُ عليه موصوفُه ، أي ما عرفوه تعالى حقَّ معرفتِه في اللُطف بعباده والرحمةِ عليهم ، ولم يُراعوا حقوقَه تعالى في ذلك ، بل أخلّوا بها إخلالاً { إِذْ قَالُوا } منكرين لبِعثة الرسلِ وإنزالِ الكتُب كافرين بنعمته الجليلةِ فيهما { مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ من شيء } [ آل عمران ، الآية 32 ] فنفي معرفتَهم لقَدْره سبحانه كنايةً عن حطِّهم لقدرِه الجليل ووصفهم له تعالى بنقيضِ نعتِه الجميل كما أن نفيَ المحبةِ في مثل { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } كنايةٌ عن البغض والسُخط ، وإلا فنفيُ معرفةِ قدرِه تعالى يتحقق مع عدم التعرُّض لحطِه ، بل مع السعْي في تحصيل المعرفةِ كما في قول مَن يناجي مستقصِراً لمعرفته وعبادته : سبحانك ما عرَفناك حقَّ معرفتِك ، وما عبدناك حقَّ عبادتك . أو ما عرفوه حقَّ معرفتِه في السُخط على الكفار وشدّةِ بطشِه تعالى بهم حسْبما نطقَ به القرآنُ حين اجترأوا على التفوُّه بهذه العظيمةِ الشنعاءِ ، فالنفيُ بمعناه الحقيقي والقائلون هم اليهودُ وقد قالوه مبالغةً في إنكار إنزالِ القرآنِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُلزِموا بما لا سبيلَ إلى إنكاره أصلاً حيث قيل : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَاء بِهِ موسى } أي قل لهم ذلك على طريقة التبكيت وإلقامِ الحجر ، وروي أن مالكَ بنَ الصيف من أحبار اليهودِ ورؤسائِهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنشُدُك الله الذي أنزل التوراةَ على موسى هل تجدُ فيها الله يُبغض الحِبرَ السمين ؟ فأنت الحِبرُ السمين ، قد سمِنْتَ من مالك الذي تُطعمُك اليهود » فضحك القومُ فغضبَ ثم التفت إلى عمرَ رضي الله عنه فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء فنزعوه وجعلوا مكانه كعبَ بنَ الأشرف ، وقيل : هم المشركون وإلزامُهم إنزالُ التوراة لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعةِ ، ولذلك كانوا يقولون : { لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ } [ الأنعام ، الآية 157 ] ووصفُ الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقريعِ وتشديدِ التبكيت ، وكذا تقييدُه بقوله تعالى : { نُوراً وَهُدًى } فإن كونَه بيّناً بنفسه ومبيِّناً لغيره مما يؤكد الإلزامَ أيَّ تأكيدٍ ، وانتصابُهما على الحالية من الكتاب ، والعامل ( أَنزل ) أو من الضمير في ( به ) ، والعامل ( جاء ) واللام في قوله تعالى : { لِلنَّاسِ } إما متعلقٌ بهدىً ، أو بمحذوفٍ هو صفة له ، أي هدى كائناً للناس وليس المرادُ بهذا مجردَ إلزامِهم بالاعتراف بإنزال التوراةِ فقط بل إنزالِ القرآنِ أيضاً ، فإن الاعترافَ بإنزالها مستلزِمٌ للاعتراف بإنزاله قطعاً ، لما فيها من الشواهد الناطقةِ به ، وقد نعى عليهم ما فعلوا بها من التحريف والتغييرِ حيث قيل : { تَجْعَلُونَهُ قراطيس } أي تضعونه في قراطيسَ مقطَّعةٍ ، وورَقاتٍ مفرَّقة ، بحذف الجارِّ بناءً على تشبيه القراطيس بالظرف المُبْهم ، أو تجعلونه نفسَ القراطيس المقطعة ، وفيه زيادةُ توبيخٍ لهم بسوء صنيعِهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزّلوه منزلةَ القراطيسِ الخاليةِ عن الكتابة ، والجملة حالٌ كما سبق وقوله تعالى : { تُبْدُونَهَا } صفةٌ لقراطيسَ ، وقوله تعالى : { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } معطوفٌ عليه ، والعائدُ إلى الموصول محذوفٌ ، أي كثيراً منها ، وقيل : كلامٌ مبتدأ لا محل له من الإعراب ، والمرادُ بالكثير نعوتُ النبي عليه الصلاة والسلام وسائرُ ما كتموه من أحكام التوراة ، وقرئ الأفعالُ الثلاثة بالياء حملاً على قالوا وما قدروا . وقوله تعالى : { وَعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ } قيل : هو حالٌ من فاعل تجعلونه بإضمار قد ، أو بدونه على اختلاف الرأيين . قلت : فينبغي أن يجعل ( ما ) عبارةً عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائعِ ليكون التقييدُ بالحال مفيداً لتأكيد التوبيخِ وتشديدِ التشنيع ، فإن ما فعلوه بالكتاب من التفريق والتقطيعِ لما ذُكر من الإبداءِ والإخفاءِ شناعةٌ عظيمة في نفسها ، ومع ملاحظة كونه مأخذاً لعلومهم ومعارفِهم أشنعَ وأعظمَ ، لا عما تلقَّوْه من جهة النبي صلى الله عليه وسلم زيادةً على ما في التوراة وبياناً لما التَبَس عليهم وعلى آبائهم من مشكلاتها حسْبما ينطِقُ به قوله تعالى : { إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بَني إسرائيل أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ النمل ، الآية 76 ] كما قالوا لأنّ تلقَّيَهم لذلك من القرآن الكريم ليس مما يزجُرهم عما صنعوا بالتوراة أما ما ورد فيه زيادةً على ما فيها فلأنه لا تعلّقَ له بها نفياً ولا إثباتاً ، وأما ما ورد بطريق البيانِ فلأن مدارَ ما فعلوا بالتوراة من التبديل والتحريفِ ليس ما وقع فيها من التباس الأمرِ واشتباهِ الحال حتى يُقلِعوا عن ذلك بإيضاحه وبيانِه فتكونَ الجملةُ حينئذ خاليةً عن تأكيد التوبيخ ، فلا تستحق أن تقعَ موقع الحال بل الوجهُ حينئذٍ أن تكون استئنافاً مقرِّراً لما قبلها من مجيءِ الكتابِ بطريق التكملةِ والاستطراد والتمهيدِ لما يعقُبه من مجيءِ القرآن ، ولا سبيلَ إلى جعل ( ما ) عبارةً عما كتموه من أحكام التوراةِ كما يفصح عنه قوله تعالى : { قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً ممَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب } [ المائدة ، الآية 15 ] فإن ظهورَه وإن كان مزْجَرةً لهم عن الكتم مخافةَ الافتضاح ومصحِّحاً لوقوعِ الجملة في موقع الحالِ لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتماً . هذا ، وقد قيل : الخطابُ لمن آمن من قريش كما في قوله تعالى : { لِتُنذِرَ قَوْماً ما أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ } [ يس ، الآية 6 ] وقولُه تعالى : { قُلِ الله } أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُجيبَ عنهم إشعاراً بتعيّن الجواب بحيث لا محيدَ عنه وإيذاناً بأنهم أُفحموا ولم يقدِروا على التكلم أصلاً { ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ } في باطلهم الذي يخوضون فيه ولا عليك بعد إلزامِ الحجة وإلقامِ الحجر { يَلْعَبُونَ } حال من الضمير الأول ، والظرفُ صلة للفعل المقدّم أو المؤخر أو متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من مفعولِ الأولِ أو من فاعل الثاني أو من الضمير الثاني لأنه فاعلٌ في الحقيقة والظرفُ متَّصل بالأول .