الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ} (1)

مقدمة السورة:

مكّيّة ، وهي ثلاثة وسبعون حرفاً ، وسبع عشرة كلمة ، وأربع آيات .

أخبرني نافل بن راقم بن أحمد بن عبد الجبار البابي قال : حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن محمد البلخي قال : حدّثنا عمر بن محمد بن محمد الكرمي قال : حدّثنا أسباط بن اليسع قال : حدّثنا يحيى بن عبيد اللّه السلمي قال : حدّثنا نوح بن أبي مريم ، عن علي بن زيد ، عن زر بن حبيش ، عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) : " من قرأ سورة{ لإِيلاَفِ قُرَيْش }أُعطي من الأجر عشر حسنات ، بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها " .

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا حازم بن يحيى الحلواني قال : أخبرنا أبو مصعب عن إبراهيم بن يحيى بن ثابت قال : أخبرني عبد اللّه بن أبي عتيق عن سعيد بن عمر بن جعدة عن أبيه عن جدته أُمّ هانئ بنت أبي طالب قالت : إن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( فضَّل اللّه قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحداً قبلهم ، ولا يعطاها أحداً بعدهم : فضلَّ اللّه قريشاً أني منهم ، وأنّ النبوة فيهم وأنّ الحجابة فيهم ، والسقاية فيهم ، ونصرهم على الفيل ، وعبدوا اللّه سبحانه عشرين سنة لا يعبدهُ غيرهم ، وأنزل اللّه سبحانه فيهم سورة لم يذكر فيها أحدٌ غيرهم .

اختلف القرّاء فيها : فقرأ عبد اللّه بن عامر ( لإلاف ) مهموزاً مختلساً بلا ياء ، وقرأ أبو جعفر ( ايلاف ) بغير همز ، وإنما ذهب إلى طلب الخفّة ( لايلاف ) بالياء مهموزة مشبعة ، وأما قولهم : ( إيلاف ) فروى العمري عن أبي جعفر والبلخي عن ابن كثير ( إلفهمْ ) ساكنة اللام بغير ياء ، وتصديق هذه القراءة ما أخبرنا الحسين بن فنجويه قال : حدّثنا ابن خنيس قال : حدّثنا أبو خديجة أحمد بن داود قال : حدّثنا محمد بن حميد قال : حدّثنا مهران ، عن سفيان بن ليث ، عن شمر بن حوشب ، عن أسماء قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم [ يقرأ ] : " إلفهم رحلة الشتاء والصيف " .

وروى الفضل بن شاذان بإسناده عن أبي جعفر ، والوليد عن أهل الشام : ( إلافهم ) مهموزة مختلسة بلا ياء .

وروى محمد بن حبيب الحموي عن أبي يوسف الأعشى ، عن أبي بكر ، عن عاصم : ( إلأفْهم ) بهمزتين : الأُولى مكسورة ، والثانية ساكنة . الباقون ( إيلافهم ) .

وأخبرني سعيد بن المعافى ، أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثنا أبو كرنب قال : حدّثنا وكيع ، عن أبي مكّي ، عن عكرمة أنه كان يقرأ ( إليالف قريش الفهم ) .

وعدّ بعضهم السورتين واحدة : منهم أُبيّ بن كعب ، ولا فصل بينهما في مصحفه .

وقال سفيان بن عيينة : كان لنا إمام لا يفصل بينهما ، ويقرأهما معاً . وقال عمرو بن ميمون الأودي : صلّيت المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقرأ في الأُولى ( والتين والزيتون ) ، وفي الثانية ( ألم تّر ) و( لإيلاف قريش ) .

واختلفوا في العلّة الجالبة لهذه اللام فقال الفرّاء : هي متّصلة بالسورة الأُولى ، وذلك أنه [ تعالى ] ذكّر أهل مكّة عظيم نعمته عليهم في ما صنع بالحبشة ، ثم قال : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمةً منّا على قريش ، أي نعمتنا عليهم في رحلتهم الشتاء والصيف ، فكأنّه قال : نعمةٌ إلى نعمة ، فتكون اللام بمعنى ( إلى ) .

وقال الرازي والأخفش : هي لام التعجب . يقول : عجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، وتركهم عبادة ربّ هذا البيت ، ثم أمرهم بعبادته .

وهذا كما يقول في الكلام : لزيد وإكرامنا إيّاه ، على وجه التعجب . أي : أعجبُ لذلك ، والعرب إذا جاءت بهذه اللام اكتفوا بها دليلا على التعجّب ؛ لإظهار الفعل فيه ، كقول الشاعر :

أغرَّكَ أن قالوا لقرة شاعرٌ *** افياك أباه من عريف وشاعرٌ

أي أعجبوا لقرة شاعراً .

وقيل : هي لام ( كي ) مجازها{ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }

ليؤلف قريشاً ، فكان هلاك أصحاب الفيل سبباً لبقاء إيلاف قريش ، ونظام حالهم وأقوام ما لهم . وقال الزجّاج : هي مردودة إلى ما بعدها ، تقديرهُ : فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف رحلة الشتاء والصيف .

وقريش هم ولد النضر بن كنانة ، فمن وَلَده النضر فهو قرشي ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي .

قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمّنا ، ولا ننتفي من أبينا " .

وأخبرنا أبو بكر الجوزي قال : أخبرنا الرعولي قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا أبو المغيرة قال : حدّثنا الأوزاعي قال : حدّثنا أبو عمار شداد عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول اللّه ( عليه السلام ) : " إن اللّه عزّ وجلّ اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى من بني كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " .

وسمّوا قريشاً من التقرش ، وهو التكسّب والتقلّب والجمع والطلب ، وكانوا قوماً على المال والإفضال حراصاً .

وسأل معاوية عبد اللّه بن عباس : لِمَ سمّيت قريش قريشاً ؟ فقال : لدابّة في البحر يقال لها : القرش ، تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلا . قال : وهل يعرف العرب ذلك في أشعارهم ؟ قال : نعم :

وقريش هي التي تسكن البحر بها *** سميت قريش قريشا

سلطت بالعلو في لجّةِ البح *** ر على ساير البحور جيوشا

تأكل الغثّ والسمين ولا تت*** رك فيه لذي جناحين ريشا

هكذا في البلاد حي قريش *** يأكلون البلاد أكلا كميشا

ولهم آخر الزمان نبيٌّ *** يُكثر القتل فيهمُ والخموشا

يملأ الأرض خيله ورجالا *** يحسرون المطيّ حسراً كشيشا

وقوله : { إِيلاَفِهِمْ } بدل من الإيلاف الأوّل ، ويرخمه له ، ومن أسقط الياء من الإيلاف احتجَ بقول أبي طالب يوصي أبا لهب برسول اللّه صلى الله عليه وسلم :

ولا تتركنه ما حييت لمعظم *** وكن رجلا ذا نجدة وعفافِ

تذود العدا عن عصبة هاشمية *** إلافهم في الناس خيرُ إلافِ

{ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ } اختلفوا في وجه انتصاب الرحلة ، فقيل : نصبت على المصدر ، أي ارتحالهم رحلة ، وإنْ شئت نصبته بوقوع إيلافهم عليه ، وإنْ شئت على الظرف بمعنى : على رحلة ، وإنْ شئت جعلتهما في محل الرفع على معنى هما رحلتا الشتاء والصيف ، والأول أعجب وأحبّ إليّ ؛ لأنّها مكتوبة في المصاحف بغير ياء .

وأمّا التفسير : فروى عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانوا يشتون بمكّة ويصيفون بالطائف ، فأمرهم اللّه سبحانه أن يشتوا بالحرم ويعبدوا ربّ البيت .

وقال أبو صالح : كانت الشام فيها أرضٌ باردة وفيها أرض حارة ، وكانوا يرتحلون في الشتاء إلى الحارة ، وفي الصيف إلى الباردة ، وكانت لهم رحلتان كلّ عام للتجارة : إحداهما في الشتاء إلى اليمن ؛ لأنها أدفأ ، والأُخرى في الصيف إلى الشام ، وكان الحرم وادياً جدباً لا زرع فيه ولا ضرع ، ولا ماء ولا شجر ، وإنّما كانت قريش تعيش بها بتجارتهم ورحلتهم ، وكانوا لا يُتعرض لهم بسوء .

وكانوا يقولون : قريش سكان حرم اللّه وولاة بيته ، فلولا الرحلتان لم يكن لأحد بمكّة مقام ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرّف ، فشقّ عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام ، وأخصبت تبالة ، وجرش والجند من بلاد اليمن ، فحملوا الطعام إلى مكّة ، أهل الساحل في البحر على السفن ، وأهل البر على الإبل والحمر ، فألقى أهل الساحل بجدّة وأهل البرّ بالمحصّب ، وأخصبت الشام فحملوا الطعام إلى مكّة ، فحمل أهل الشام إلى الأبطح ، وحمل أهل اليمن إلى الجدّة ، فامتاروا من قريب ، وكفاهم اللّه مؤونة الرحلتين ، وأمرهم بعبادة ربّ البيت .

أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد قال : أخبرنا أبو الوليد حسان بن محمد قال : حدّثنا القاسم بن زكريّا المطرّز قال : حدّثنا محمد بن سليمان قال : حدّثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير قال : " مرَّ رسول اللّه ( عليه السلام ) ومعه أبو بكر بملَئِهم ينشدون :

يا ذا الذي طلب السماحة والندى * هلاّ مررت بآل عبد الدارِ

هلاّ مررت بهم تريد قِراهمُ * منعوك من جهد ومن إقتار

فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " أهكذا قال الشاعر يا أبا بكر ؟ " قال : لا ، والذي بعثك بالحق ، بل قال :

يا ذا الذي طلب السماحة والندى * هلاّ مررت بآل عبد منافِ

لو أنْ مررت بهم تريد قِراهمُ * منعوك من جهد ومن إيجاف

الرائشين وليس يوجد رائش * والقائلين هلُمَّ للأضياف

والخالطين غنَّيهم بفقيرهم * حتى يصير فقيرُهم كالكافي

والقائلين بكل وعد صادق * ورجال مكّة مسنتين عجاف

سفرين سنّهما له ولقومه * سفر الشتاء ورحلة الأصياف "

قال الكلبي : وكان أوّل من حمل السمراء من الشام ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف .