الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩} (24)

فقال داود : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } فإن قيل : كيف جاز لداود أن يحكم وهو لم يسمع كلام الخصم الآخر ؟

قيل : معنى الآية أن أحدهما لمّا ادّعى على الآخر عرّف له صاحبه ، فعند اعترافه فصل القضية بقوله : ( لقد ظلمك ) فحذف الاعتراف ، لأن ظاهر الآية دال عليه ، كقول العرب : أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال .

وقال الشاعر :

تقول ابنتي لما رأتني شاحباً *** كأنك سعيد يحميك الطعام طبيب

تتابع أحداث تخر من إخوتي *** فشيّبن رأسي والخطوب تشيب

{ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ } الشركاء { لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فليسوا كذلك { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } ودليل ماذكرنا من التأويل .

ما قاله السدي ، بإسناده : إن احدهما لما قال : { إِنَّ هَذَآ أَخِي } الآية فقال داود للآخر : ما تقول ؟ فقال إن لي تسعاً وتسعين نعجة ، ولأخي هذا نعجة واحدة ، وأنا أريد ان آخذها منه فأكمل نعاجي مائة . قال : وهو كاره .

قال : إذاً لاندعك وذلك ، وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يعني طرف الأنف وأصله الجبهة .

فقال : ياداود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا ، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلاّ امرأة واحدة ، فلم تزل به تعرضه للقتل حتّى قُتل وتزوجت امرأته .

قال : فنظر داود فلم ير أحداً ، فعرف ما قد وقع فيه ، فذلك قوله سبحانه : و { وَظَنَّ } وأيقن { دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ابتليناه .

قال سعيد بن جبير : إنما كانت فتنة داود النظر . قلت : ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة ، ولكنه أعاد النظر إليها فصارت عليه .

فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود .

وقد روى عن الحرث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : من حدّث بحديث داود على ماروته القصاص معتقداً صحته جلدته حدّين لعظيم ما ارتكب وجليل ما احتقب من الوزر والإثم ، برمي من قد رفع الله سبحانه وتعالى محله ، وأبانه رحمة للعالمين وحجة للمهتدين .

فقال القائلون بتنزيه المرسلين في هذه القصة : إن ذنب داود لما كان أنه تمنى أن تكون له امرأة أوريا حلالاً له وحدث نفسه بذنب ، واتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه ، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه ولم يتوجع له ، كما جزع على غيره من جنده إذا هلك ، ثم تزوج امرأته ، عاتبه الله سبحانه على ذلك ، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله سبحانه وتعالى .

وقال بعضهم : كان ذنب داود أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها ، فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك أوريا غماً شديداً ، فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم تزل هذه الواحدة لخاطبها الأول ، وقد كانت عنده تسع وتسعون امرأة .

وممّا يصدق ماذكرنا [ ما ] قيل عن المفسرين المتقدمين ، ما أخبرني عقيل بن محمّد بن أحمد الفقيه : أن المعافي بن زكريا القاضي ببغداد أحمد بن زكريا أخبره عن محمّد بن جرير قال : حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرني ابن وهب قال : أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك سمعه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن داود النبيّ حين نظر إلى المرأة وأهم ، قطع على بني إسرائيل ، وأوصى صاحب البعث فقال : إذا حضرالعدو فقرّب فلاناً بين يدي التابوت ، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت وكان التابوت لم يرجع حتّى يقتل أو ينهزم عنه الجيش ، فقتل زوج المرأة ونزل الملكان يقصان عليه قصته ، ففطن داود فسجد ، فمكث أربعين ليلة ساجداً حتّى نبت الزرع من دموعه وأكلت الأرضة من جبينه ، وهو يقول في سجوده : ربّ زلّ داود زلة أبعد ممّا بين المشرق والمغرب ، ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً في الخلوف من بعده .

فجاءه جبرئيل ( عليه السلام ) من بعد أربعين ليلة فقال : ياداود إن الله غفر لك الهمّ الذي هممت به .

فقال داود : عرفت أن الربّ قادر على أن يغفر لي الهمّ الذي هممت به ، وقد عرفت أن الله عدل لايميل ، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال : ربّ دمي الذي عند داود ؟ فقال جبرئيل : ما سألت ربك عن ذلك ، ولئن شئت لأفعلن . قال : نعم . فعرج جبرئيل وسجد داود فمكث ماشاء الله ثم نزل ، فقال : قد سألت الله تعالى ياداود عن الذي أرسلتني فيه فقال : قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول له هِب [ لي ] دمك الذي عند داود . فيقول : هو لك يارب . فيقول : فإن لك في الجنّة ما شئت وما اشتهيت عوضاً " .

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا الباقرجي قال : حدثنا الحسن بن علوية قال : حدثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدثنا إسحاق بن بشير قال : أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس قال : واخبرنا سعيد بن بشير وعصمة بن حداس القطعي ، عن قتادة عن الحسن وابن سمعان ، عمن يخبره عن كعب الأحبار قال : وأخبرني أبو الياس عن وهب بن منبه قالوا جميعاً : إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه ، فتحولا في صورتهما فعرجا وهما يقولان : قضى الرجل على نفسه . وعلم داود إنه عني به ، فخر ساجداً أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلاّ لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة ، ثم يعود ساجداً ثم لايرفع رأسه إلاّ لحاجة لابدّ منها ، ثم يعود ويسجد تمام أربعين يوماً ، لايأكل ولايشرب وهو يبكي حتّى نبت [ الزرع ] حول رأسه وهو ينادي ربّه عزّ وجلّ ويسأله التوبة ، وكان يقول في سجوده :

سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء ، سبحان خالق النور ، سبحان الحائل بين القلوب ، سبحان خالق النور ، إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس ، فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي ، سبحان خالق النور ، إلهي تبكي الثكلى على ولدها إذا فقدته وداود يبكي على خطيئته ، سبحان خالق النور ، إلهي لم اتعظ بما وعظت به غيري ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت خلقتني ، وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر ، سبحان خالق النور ، إلهي يُغسل الثوب فيذهب درنه ووسخه والخطيئة لازمة بي لا تذهب عني ، سبحان خالق النور ، إلهي أمرتني أن أكون لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الرحيم فنسيت عهدك ، سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء فيقال : هذا داود الخاطىء ، سبحان خالق النور ، إلهي بأي عينين أنظر بهما إليك يوم القيامة ، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي ، إلهي بأي قدم أقوم بها أمامك يوم تزول أقدام الخاطئين ، سبحان خالق النور ، إلهي ويل للخاطئين يوم القيامة من سوء الحساب ، سبحان خالق النور ، إلهي مضت النجوم وكنت أعرفها بأسمائها ، فتركتني والخطيئة لازمة بي ، سبحان خالق النور ، إلهي من أين تطلب المغفرة إلاّ من عند سيده ، سبحان خالق النور ، إلهي مطرت السماء ولم تمطر حولي ، سبحان خالق النور ، إلهي أعشبت الأرض ولم تعشب حولي بخطيئتي ، سبحان خالق النور ، إلهي أنا الذي لا أطيق حرّ شمسك فكيف أطيق حرّ نارك ، سبحان خالق النور ، إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم ، سبحان خالق النور ، إلهي كيف يستتر الخاطئون بخطاياهم دونك وأنت شاهدهم حيث كانوا ، سبحان خالق النور ، إلهي قرح الجبين وجمدت العينان من مخافة الحريق على جسدي ، سبحان خالق النور ، إلهي الطير تسبّح لك بأصوات ضعاف تخافك وأنا العبد الخاطىء الذي لم ارع وصيتك ، سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت المغيث وأنا المستغيث فمن يدعوا المستغيث إلاّ المغيث ، سبحان خالق النور ، إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري ، سبحان خالق النور .

اللهمّ إني أسألك إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، أن تعطيني سؤلي فإن إليك رغبتي ، سبحان خالق النور ، اللهم برحمتك اغفر لي ذنوبي ولاتباعدني من رحمتك لهواني ، سبحان خالق النور ، اللهمّ إني أعوذ بك من دعوة لاتستجاب وصلاة لا تُتَقَبَّل وذنب لايغفر وعذر لا يقبل ، سبحان خالق النور ، إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني ، سبحان خالق النور ، فررت إليك بذنوبي وأعترف بخطيئتي ، فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين ، سبحان خالق النور ، إلهي قرح الجبين وجمدت الدموع وتناثر الدود من ركبتي وخطئيتي الزم بي من جلدي ، سبحان خالق النور .

قال : فأتاه نداء : يا داود أجائع أنت فتطعم ، أظمآن أنت فتسقى ، أمظلوم أنت فتنصر ؟ ولم يجبه في ذكر خطيئته بشيء ، فصاح صيحة هاج ماحوله ثم نادى : يارب الذنب الذنب الذي أصبته . ونودي : ياداود ارفع رأسك فقد غفرت لك . فلم يرفع رأسه حتّى جاء جبرئيل ( عليه السلام ) فرفعه .

قال وهب : إن داود ( عليه السلام ) أتاه نداء : أني قد غفرت لك . قال : يا رب كيف وأنت لاتظلم أحداً . قال : إذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداك فتحلل منه . قال : فانطلق حتّى أتى قبره وقد لبس المسوح حتّى جلس عند قبره ثم نادى : يا أوريا . فقال : لبيك من هذا الذي قطع عليَّ لذتي وايقظني ؟ قال : أنا داود . قال : ما جاء بك يانبي الله ؟ قال : أسألك أن تجعلني في حل ممّا كان مني إليك . قال : وما كان منك إليَّ ؟ قال : عرضتك للقتل . قال : عرضتني للجنّة وأنت في حلّ . فأوحى الله تعالى إليه : ياداود ألم تعلم أنّي حكم عدل لا أقضي بالتعنت والتغرير ، ألا أعلمته أنك قد تزوجت إمراته . قال : فرجع إليه فناداه فأجابه . فقال : من هذا الذي قطع عليَّ لذتي ؟ قال : أنا داود . قال : يانبي الله أليس قد عفوت عنك ؟ قال : نعم ، ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وتزوجتها . قال : فسكت فلم يجبه ، ودعاه فلم يجبه ، وعاوده فلم يجبه ، فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى : الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ برقبته فيدفع إلى المظلوم ، سبحان خالق النور ، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النّار ، سبحان خالق النور ، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين تقربه الزبانية مع الظالمين إلى النّار ، سبحان خالق النور . قال : فأتاه نداء من السماء : يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك . قال : يارب كيف لي أن تعفو عني وصاحبي لم يعف عني . قال : ياداود أعطيه يوم القيامة مالم تر عيناه ولم تسمع أُذناه فأقول له : رضى عبدي ؟ فيقول : يارب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي . فأقول له : هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي . قال : يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي . فذلك قوله سبحانه : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ }