فقال داود : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } فإن قيل : كيف جاز لداود أن يحكم وهو لم يسمع كلام الخصم الآخر ؟
قيل : معنى الآية أن أحدهما لمّا ادّعى على الآخر عرّف له صاحبه ، فعند اعترافه فصل القضية بقوله : ( لقد ظلمك ) فحذف الاعتراف ، لأن ظاهر الآية دال عليه ، كقول العرب : أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال .
تقول ابنتي لما رأتني شاحباً *** كأنك سعيد يحميك الطعام طبيب
تتابع أحداث تخر من إخوتي *** فشيّبن رأسي والخطوب تشيب
{ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ } الشركاء { لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فليسوا كذلك { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } ودليل ماذكرنا من التأويل .
ما قاله السدي ، بإسناده : إن احدهما لما قال : { إِنَّ هَذَآ أَخِي } الآية فقال داود للآخر : ما تقول ؟ فقال إن لي تسعاً وتسعين نعجة ، ولأخي هذا نعجة واحدة ، وأنا أريد ان آخذها منه فأكمل نعاجي مائة . قال : وهو كاره .
قال : إذاً لاندعك وذلك ، وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يعني طرف الأنف وأصله الجبهة .
فقال : ياداود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا ، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلاّ امرأة واحدة ، فلم تزل به تعرضه للقتل حتّى قُتل وتزوجت امرأته .
قال : فنظر داود فلم ير أحداً ، فعرف ما قد وقع فيه ، فذلك قوله سبحانه : و { وَظَنَّ } وأيقن { دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ابتليناه .
قال سعيد بن جبير : إنما كانت فتنة داود النظر . قلت : ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة ، ولكنه أعاد النظر إليها فصارت عليه .
فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود .
وقد روى عن الحرث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : من حدّث بحديث داود على ماروته القصاص معتقداً صحته جلدته حدّين لعظيم ما ارتكب وجليل ما احتقب من الوزر والإثم ، برمي من قد رفع الله سبحانه وتعالى محله ، وأبانه رحمة للعالمين وحجة للمهتدين .
فقال القائلون بتنزيه المرسلين في هذه القصة : إن ذنب داود لما كان أنه تمنى أن تكون له امرأة أوريا حلالاً له وحدث نفسه بذنب ، واتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه ، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه ولم يتوجع له ، كما جزع على غيره من جنده إذا هلك ، ثم تزوج امرأته ، عاتبه الله سبحانه على ذلك ، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله سبحانه وتعالى .
وقال بعضهم : كان ذنب داود أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها ، فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك أوريا غماً شديداً ، فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم تزل هذه الواحدة لخاطبها الأول ، وقد كانت عنده تسع وتسعون امرأة .
وممّا يصدق ماذكرنا [ ما ] قيل عن المفسرين المتقدمين ، ما أخبرني عقيل بن محمّد بن أحمد الفقيه : أن المعافي بن زكريا القاضي ببغداد أحمد بن زكريا أخبره عن محمّد بن جرير قال : حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرني ابن وهب قال : أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك سمعه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن داود النبيّ حين نظر إلى المرأة وأهم ، قطع على بني إسرائيل ، وأوصى صاحب البعث فقال : إذا حضرالعدو فقرّب فلاناً بين يدي التابوت ، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت وكان التابوت لم يرجع حتّى يقتل أو ينهزم عنه الجيش ، فقتل زوج المرأة ونزل الملكان يقصان عليه قصته ، ففطن داود فسجد ، فمكث أربعين ليلة ساجداً حتّى نبت الزرع من دموعه وأكلت الأرضة من جبينه ، وهو يقول في سجوده : ربّ زلّ داود زلة أبعد ممّا بين المشرق والمغرب ، ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً في الخلوف من بعده .
فجاءه جبرئيل ( عليه السلام ) من بعد أربعين ليلة فقال : ياداود إن الله غفر لك الهمّ الذي هممت به .
فقال داود : عرفت أن الربّ قادر على أن يغفر لي الهمّ الذي هممت به ، وقد عرفت أن الله عدل لايميل ، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال : ربّ دمي الذي عند داود ؟ فقال جبرئيل : ما سألت ربك عن ذلك ، ولئن شئت لأفعلن . قال : نعم . فعرج جبرئيل وسجد داود فمكث ماشاء الله ثم نزل ، فقال : قد سألت الله تعالى ياداود عن الذي أرسلتني فيه فقال : قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول له هِب [ لي ] دمك الذي عند داود . فيقول : هو لك يارب . فيقول : فإن لك في الجنّة ما شئت وما اشتهيت عوضاً " .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا الباقرجي قال : حدثنا الحسن بن علوية قال : حدثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدثنا إسحاق بن بشير قال : أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس قال : واخبرنا سعيد بن بشير وعصمة بن حداس القطعي ، عن قتادة عن الحسن وابن سمعان ، عمن يخبره عن كعب الأحبار قال : وأخبرني أبو الياس عن وهب بن منبه قالوا جميعاً : إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه ، فتحولا في صورتهما فعرجا وهما يقولان : قضى الرجل على نفسه . وعلم داود إنه عني به ، فخر ساجداً أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلاّ لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة ، ثم يعود ساجداً ثم لايرفع رأسه إلاّ لحاجة لابدّ منها ، ثم يعود ويسجد تمام أربعين يوماً ، لايأكل ولايشرب وهو يبكي حتّى نبت [ الزرع ] حول رأسه وهو ينادي ربّه عزّ وجلّ ويسأله التوبة ، وكان يقول في سجوده :
سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء ، سبحان خالق النور ، سبحان الحائل بين القلوب ، سبحان خالق النور ، إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس ، فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي ، سبحان خالق النور ، إلهي تبكي الثكلى على ولدها إذا فقدته وداود يبكي على خطيئته ، سبحان خالق النور ، إلهي لم اتعظ بما وعظت به غيري ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت خلقتني ، وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر ، سبحان خالق النور ، إلهي يُغسل الثوب فيذهب درنه ووسخه والخطيئة لازمة بي لا تذهب عني ، سبحان خالق النور ، إلهي أمرتني أن أكون لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الرحيم فنسيت عهدك ، سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء فيقال : هذا داود الخاطىء ، سبحان خالق النور ، إلهي بأي عينين أنظر بهما إليك يوم القيامة ، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي ، إلهي بأي قدم أقوم بها أمامك يوم تزول أقدام الخاطئين ، سبحان خالق النور ، إلهي ويل للخاطئين يوم القيامة من سوء الحساب ، سبحان خالق النور ، إلهي مضت النجوم وكنت أعرفها بأسمائها ، فتركتني والخطيئة لازمة بي ، سبحان خالق النور ، إلهي من أين تطلب المغفرة إلاّ من عند سيده ، سبحان خالق النور ، إلهي مطرت السماء ولم تمطر حولي ، سبحان خالق النور ، إلهي أعشبت الأرض ولم تعشب حولي بخطيئتي ، سبحان خالق النور ، إلهي أنا الذي لا أطيق حرّ شمسك فكيف أطيق حرّ نارك ، سبحان خالق النور ، إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم ، سبحان خالق النور ، إلهي كيف يستتر الخاطئون بخطاياهم دونك وأنت شاهدهم حيث كانوا ، سبحان خالق النور ، إلهي قرح الجبين وجمدت العينان من مخافة الحريق على جسدي ، سبحان خالق النور ، إلهي الطير تسبّح لك بأصوات ضعاف تخافك وأنا العبد الخاطىء الذي لم ارع وصيتك ، سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت المغيث وأنا المستغيث فمن يدعوا المستغيث إلاّ المغيث ، سبحان خالق النور ، إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري ، سبحان خالق النور .
اللهمّ إني أسألك إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، أن تعطيني سؤلي فإن إليك رغبتي ، سبحان خالق النور ، اللهم برحمتك اغفر لي ذنوبي ولاتباعدني من رحمتك لهواني ، سبحان خالق النور ، اللهمّ إني أعوذ بك من دعوة لاتستجاب وصلاة لا تُتَقَبَّل وذنب لايغفر وعذر لا يقبل ، سبحان خالق النور ، إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني ، سبحان خالق النور ، فررت إليك بذنوبي وأعترف بخطيئتي ، فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين ، سبحان خالق النور ، إلهي قرح الجبين وجمدت الدموع وتناثر الدود من ركبتي وخطئيتي الزم بي من جلدي ، سبحان خالق النور .
قال : فأتاه نداء : يا داود أجائع أنت فتطعم ، أظمآن أنت فتسقى ، أمظلوم أنت فتنصر ؟ ولم يجبه في ذكر خطيئته بشيء ، فصاح صيحة هاج ماحوله ثم نادى : يارب الذنب الذنب الذي أصبته . ونودي : ياداود ارفع رأسك فقد غفرت لك . فلم يرفع رأسه حتّى جاء جبرئيل ( عليه السلام ) فرفعه .
قال وهب : إن داود ( عليه السلام ) أتاه نداء : أني قد غفرت لك . قال : يا رب كيف وأنت لاتظلم أحداً . قال : إذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداك فتحلل منه . قال : فانطلق حتّى أتى قبره وقد لبس المسوح حتّى جلس عند قبره ثم نادى : يا أوريا . فقال : لبيك من هذا الذي قطع عليَّ لذتي وايقظني ؟ قال : أنا داود . قال : ما جاء بك يانبي الله ؟ قال : أسألك أن تجعلني في حل ممّا كان مني إليك . قال : وما كان منك إليَّ ؟ قال : عرضتك للقتل . قال : عرضتني للجنّة وأنت في حلّ . فأوحى الله تعالى إليه : ياداود ألم تعلم أنّي حكم عدل لا أقضي بالتعنت والتغرير ، ألا أعلمته أنك قد تزوجت إمراته . قال : فرجع إليه فناداه فأجابه . فقال : من هذا الذي قطع عليَّ لذتي ؟ قال : أنا داود . قال : يانبي الله أليس قد عفوت عنك ؟ قال : نعم ، ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وتزوجتها . قال : فسكت فلم يجبه ، ودعاه فلم يجبه ، وعاوده فلم يجبه ، فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى : الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ برقبته فيدفع إلى المظلوم ، سبحان خالق النور ، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النّار ، سبحان خالق النور ، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين تقربه الزبانية مع الظالمين إلى النّار ، سبحان خالق النور . قال : فأتاه نداء من السماء : يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك . قال : يارب كيف لي أن تعفو عني وصاحبي لم يعف عني . قال : ياداود أعطيه يوم القيامة مالم تر عيناه ولم تسمع أُذناه فأقول له : رضى عبدي ؟ فيقول : يارب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي . فأقول له : هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي . قال : يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي . فذلك قوله سبحانه : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ }