الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{عَٰلِيَهُمۡ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضۡرٞ وَإِسۡتَبۡرَقٞۖ وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٖ وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابٗا طَهُورًا} (21)

{ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ } قرأ قتادة ومجاهد وابن سيرين وعون العقيلي وابن محيص وأبو جعفر ونافع والأعمش وحمزة وأيوب { عَالِيَهُمْ } بتسكين الياء على أنه اسم موصوف بالفعل يقول علاهم فهو عاليهم ، واختاره أبو عبيد إعتباراً بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما ( عاليتهم ) ، وتفسير ابن عباس : أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها ، وقرأ الباقون بنصب الياء على الصفة أي فوقهم وهو نصب على الظرف ، وقيل : هو كقوله :

{ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } [ الأنبياء : 3 ] وقد مضى ، ذكرنا تقديم الصفة على الموصوف ، وقيل : معناه عالياً لهم ثيابها كقوله :

{ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] ونحوها .

{ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } اختلف القراء فيهما فقرأ ابن كثير وابو بكر والمفضل خضر بالخفض على نعت السندس والاستبرق بالرفع على نعت الثياب ، وقرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بضده واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، وقرأ نافع وأيوب وحفص كليهما بالرفع ، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف كليهما بالجر .

{ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } طاهر من الأقذار لم تدنسه الأيدي ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا قال أبو قلابة وإبراهيم : يعني أنه لا يصير نجساً ولكنه يصير رشحاً في أيديهم كريح المسك ، وأن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا وأكلهم ونهمتهم ، فإذا أكل ما شاء سُقي شراباً طهوراً فيطهر بطنه ويصير ما أكل رشحاً يخرج من جلده أطيب ريحاً من المسك الأذفر ويضمر بطنه وتعود شهوته ، وقيل : يطهرهم من الذنوب والأدناس والأنجاس ويرشحهم للجنّة .

وقال جعفر : يطهّرهم به عن كلّ شيء سواه ، إذ لا طاهر من تدنّس شيء من الأكوان .

وقال أبو سليمان الداراني سقاهم ربّهم على حاشية بساط الود ، فأرواهم من صحبة الخلق وأراهم رؤية الحقّ ، ثمّ أقعدهم على منابر القدس وحيّاهم بتحيّة المزمّل وأمطر التأييد ، فسالت عليهم أودية الشوق فكفاهم هموم الفرقة وحيّاهم بسرور القربة .

وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا عبد الله محمّد بن علي الشاشي يقول : سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول سئل أبو يزيد البسطامي عن قوله سبحانه { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } قال : طهّرهم به عن محبّة غيره ثم قال : إنّ لله شراباً ادّخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتّصلوا فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر .

وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : سمعت أبا بكر الرازي يقول : سمعت طيّب الحمّال يقول : صلّيت خلف سهل بن عبد الله العتمة فقرأ قوله : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } فجعل يحرّك فمه كأنّه يمصّ شيئاً ، فلمّا فرغ من صلاته قيل له : إتشرب أم تقرأ ؟ قال : والله لو لم أجد لذّته عند قراءته كلذّتي عند شربه ما قرأته .

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا هارون قال : حدّثا حازم بن يحيى الحلواني قال حدّثنا محمّد ابن عبد الله بن عمار الموصلي قال : حدّثنا عفيف بن سالم عن أيّوب بن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال : " جاء رجل من الحبشة إلى النبي ( عليه السلام ) عليه السلام يسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " سل واستفهم " .

فقال : يا رسول الله فضلتم علينا بالصوَر والألوان والنبوّة أفرأيت إن آمنت بمثل ما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به أأني لكائن معك في الجنّة ؟ قال : " نعم " ثمّ قال النبي ( عليه السلام ) : " والذي نفسي بيده ليرى بياض الأسود في الجنّة مسيرة ألف عام " ، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلاّ الله كان له بها عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة " .

قال رجل : كيف نهلك بعدها يا رسول الله ؟

قال : " إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة لو وضع على جبل لأثقله ، قال : فتقوم النعمة من نعم الله سبحانه فيكاد أن تستنفد ذلك كلّه إلاّ أن يتطوّل الله تعالى برحمته " قال : ثمّ نزلت { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ } إلى قوله { وَمُلْكاً كَبِيراً } الآيات .

قال الحبشي : وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنّة .

قال النبي ( عليه السلام ) : " نعم " فاشتكى الحبشي حتى فاضت نفسه . فقال ابن عمر : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليّه في حفرته بيده " .