القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظّلُمَاتُ وَلاَ النّورُ * وَلاَ الظّلّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَآءُ وَلاَ الأمْوَاتُ إِنّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلاّ نَذِيرٌ } . يقول تعالى ذكره : وَما يَسْتَوِي الأعْمَى عن دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والبَصِيرُ الذي قد أبصر فيه رشده ، فاتبع محمدا وصدّقه ، وقبل عن الله ما ابتعثه به وَلا الظّلُماتُ يقول : وما تستوي ظلمات الكفر ، ونور الإيمان وَلا الظّلّ قيل : ولا الجنة وَلا الحَرُورُ قيل : النار ، كأن معناه عندهم : وما تستوي الجنة والنار والحَرُور بمنزلة السّموم ، وهي الرياح الحارّة . وذكر أبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى ، عن رُؤْبة بن العَجّاج ، أنه كان يقول : الحَرور بالليل ، والسموم بالنهار . وأما أبو عبيدة فإنه قال : الحَرور في هذا الموضع والنهار مع الشمس . وأما الفراء فإنه كان يقول : الحَرُور يكون بالليل والنهار ، والسّموم لا يكون بالليل إنما يكون بالنهار .
والقول في ذلك عندي ، أن الحَرور يكون بالليل والنهار ، غير أنه في هذا الموضع بأن يكون كما قال أبو عبيدة : أشبه مع الشمس ، لأن الظلّ إنما يكون في يوم شمس ، فذلك يدلّ على أنه أريد بالحَرور : الذي يوجد في حال وجود الظلّ .
وقوله : وَما يَسْتَوِي الأحْياءُ وَلا الأمْوَاتُ يقول : وما يستوي الأحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ، ومعرفة تنزيل الله ، والأموات القلوب لغلبة الكفر عليها ، حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ، ولا تعرف الهدى من الضلال وكلّ هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان ، والكافر والكفر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ . . . الاَية ، قال : هو مَثَل ضربه الله لأهل الطاعة وأهل المعصية . يقول : وما يستوي الأعمى والظلمات والحرور ، ولا الأموات ، فهو مَثَل أهل المعصية . ولا يستوي البصير ولا النور ، ولا الظلّ والأحياء ، فهو مثل أهل الطاعة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما يَسْتَوِي الأعْمَى . . . الاَية خلقا ، فضل بعضه على بعض فأما المؤمن فعبد حيّ الأثر ، حيّ البصر ، حيّ النية ، حيّ العمل . وأما الكافر فعبد ميت ، ميت البصر ، ميت القلب ، ميت العمل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ وَلا الظّلُماتُ وَلا النّورُ وَلا الظّلّ وَلا الحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الأحْياءُ وَلا الأمْوَاتُ قال : هذا مثل ضربه الله فالمؤمن بصير في دين الله ، والكافر أعمى ، كما لا يستوي الظلّ ولا الحَرور ، ولا الأحياء ولا الأموات ، فكذلك لا يستوي هذا المؤمن الذي يبصر دينه ، ولا هذا الأعمى ، وقرأ : أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ قال : الهُدى الذي هداه الله به ونوّر له . هذا مثل ضربه الله لهذا المؤمن الذي يبصر دينه ، وهذا الكافر الأعمى ، فجعل المؤمن حيا ، وجعل الكافر ميتا ، ميت القلب أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأَحْيَيْناهُ قال : هديناه إلى الإسلام كمن مثله في الظلمات أعمى القلب ، وهو في الظلمات ، أهذا وهذا سواء ؟
واختلف أهل العربية في وجه دخول «لا » مع حرف العطف في قوله : وَلا الظّلُماتُ وَلا النّورُ وَلا الظّلّ وَلا الحَرُورُ فقال بعض نحويّي البصرة : قال : ولا الظلّ ولا الحَرور ، فيشبه أن تكون «لا » زائدة ، لأنك لو قلت : لا يستوي عمرو ولا زيد في هذا المعنى لم يجز إلاّ أن تكون «لا » زائدة وكان غيره يقول : إذا لم تدخل «لا » مع الواو ، فإنما لم تدخل اكتفاء بدخولها في أوّل الكلام ، فإذا أدخلت فإنه يراد بالكلام أن كلّ واحد منهما لا يساوي صاحبه ، فكان معنى الكلام إذا أعيدت «لا » مع الواو عند صاحب هذا القول : لا يساوي الأعمى البصير ولا يساوي البصير الأعمى ، فكلّ واحد منهما لا يساوي صاحبه .
وقوله : إنّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ يقول تعالى ذكره : كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله ، فيهديهم به إلى سبيل الرشاد ، فكذلك لا يقدر أن ينفع بمواعظ الله ، وبيان حُججه ، من كان ميت القلب من أحياء عباده ، عن معرفة الله ، وفهم كتابه وتنزيله ، وواضح حججه ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ كذلك الكافر لا يسمع ، ولا ينتفع بما يسمع .
{ وما يستوي الأحياء ولا الأموات }
وجملة { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } أظهر في هذه الجملة الفعل الذي قدّر في الجملتين اللتين قبلها وهو فعل { يستوي } لأن التمثيل هنا عاد إلى تشبيه حال المسلمين والكافرين إذ شبه حال المسلم بحال الأحياء وحال الكافرين بحال الأموات ، فهذا ارتقاء في تشبيه الحالين من تشبيه المؤمن بالبصير والكافر بالأعمى إلى تشبيه المؤمن بالحي والكافر بالميّت ، ونظيره في إعادة فعل الاستواء قوله تعالى في سورة الرعد ( 16 ) : { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور } . فلما كانت الحياة هي مبعث المدارك والمساعي كلها وكان الموت قاطعاً للمدارك والمساعي شبه الإِيمان بالحياة في انبعاث خير الدنيا والآخرة منه وفي تلقي ذلك وفهمه ، وشبه الكفر بالموت في الانقطاع عن الأعمال والمدركات النافعة كلها وفي عدم تلقي ما يلقى إلى صاحبه فصار المؤمن شبيهاً بالحي مشابهة كاملة لمَّا خرج من الكفر إلى الإِيمان ، فكأنه بالإِيمان نفخت فيه الحياة بعد الموت كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الأنعام ( 122 ) { أو من كان ميّتاً فأحييناه } وكان الكافر شبيهاً بالميت ما دام على كفره .
واكتُفي بتشبيه الكافر والمؤمن في موضعين عن تشبيه الكفر والإِيمان وبالعكس لتلازمهما ، وأوتي تشبيه الكافر والمؤمن في موضعين لكون وجه الشبه في الكافر والمؤمن أوضح ، وعُكس ذلك في موضعين لأن وجه الشبه أوضح في الموضعين الآخرين .
{ إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور }
لما كان أعظم حرمان نشأ عن الكفر هو حرمان الانتفاع بأبلغ كلام وأصدقه وهو القرآن كان حال الكافر الشبيهُ بالموت أوضح شبهاً به في عدم انتفاعه بالقرآن وإعراضه عن سماعه { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] ، وكان حال المؤمنين بعكس ذلك إذ تَلَقّوا القرآن ودرسوه وتفقهوا فيه { الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللَّه } [ الزمر : 18 ] ، وأعقب تمثيل حال المؤمنين والكافرين بحال الأحياء والأموات بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم معذرة له في التبليغ للفريقين ، وفي عدم قبول تبليغه لدى أحد الفريقين ، وتسلية له عن ضياع وابل نصحه في سباخ قلوب الكافرين فقيل له : إن قبول الذين قبلوا الهدى واستمعوا إليه كان بتهيئة الله تعالى نفوسَهم لقبول الذكر والعلم ، وإن عدم انتفاع المعرضين بذلك هو بسبب موت قلوبهم فكأنهم الأموات في القبور وأنت لا تستطيع أن تُسمع الأموات ، فجاء قوله : { إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور } على مقابلة قوله : { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } مقابلة اللفِّ بالنشر المرتب .
جملة { إن الله يسمع من يشاء } تعليل لجملة { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } [ فاطر : 18 ] ، لأن معنى القصر ينحلّ إلى إثبات ونفي فكان مفيداً فريقين : فريقاً انتفع بالإِنذار ، وفريقاً لم ينتفع ، فعلل ذلك ب { إن الله يسمع من يشاء } .
وقوله : { وما أنت بمسمع من في القبور } إشارة إلى الذين لم يشأ الله أن يسمعهم إنذارك .
واستعير { من في القبور } للذين لم تنفع فيهم النذر ، وعبر عن الأموات ب { من في القبور } لأن من في القبور أعرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات لأن بينهم وبين المنادي حاجز الأرض . فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإِيجاز بأن يقال : وما أنت بمسمع الموتى .
وجيء بصيغة الجمع { الأحياء } و { الأموات } تفنناً في الكلام بعد أن أورد الأعمى والبصير بالإِفراد لأن المفرد والجمع في المعرف بلام الجنس سواء إذا كان اسماً له أفراد بخلاف النور والظل والحرور ، وأما جمع { الظلمات } فقد علمت وجهه آنفاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.