جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِيَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ} (129)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوَاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } . .

يقول تعالى ذكره : قال قوم موسى لموسى حين قال لهم استعينوا بالله واصبروا : أُوذِينا بقتل أبنائنا مِنْ قبلِ أنْ تأْتِيَنا يقول : من قبل أن تأتينا برسالة الله إلينا لأن فرعون كان يقتل أولادهم الذكور حين أظله زمان موسى على ما قد بينت فيما مضى من كتابنا هذا . وقوله : وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا يقول : ومن بعد ما جئتنا برسالة الله ، لأن فرعون لما غُلبت سحرته وقال للملأ من قومه ما قال ، أراد تجديد العذاب عليهم بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم . وقيل : إن قوم موسى قالوا لموسى ذلك حين خافوا أن يدركهم فرعون وهم منه هاربون ، وقد تراءى الجمعان ، ف قالوا له يا موسى أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أنْ تَأْتيَنا كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا ، وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل االتأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : مِنْ قَبْلِ أنْ تَأْتِيَنا من قبل إرسال الله إياك وبعده .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فلما تراءى الجمعان فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم ، قالوا : إنّا لمُدْرَكُونَ وقالوا : أو ذِيَنا مِنْ قَبْلِ أنْ تَأْتِيَنَا . كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا . ومِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنَا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا ، إنّا لَمُدْرَكُونَ .

حدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : سار موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر ، فالتفتوا فإذا هم برَهْج دوابّ فرعون ، فقالوا : يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، هذا البحر أمامنا وهذا فرعون بمن معه قال عَسَى رَبكُمْ أنْ يَهْلِكَ عَدْوّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ في الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ .

وقوله : قالَ عَسَى رَبّكُمْ أنْ يُهْلكَ عَدُوّكُمْ يقول جلّ ثناؤه : قال موسى لقومه : لعلّ ربكم أن يهلك عدوّكم : فرعون وقومه ، ويَسْتَخْلِفَكُمْ يقول : يجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم ، لا تخافونهم ولا أحدا من الناس غيرهم فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يقول : فيرى ربكم ما تعملون بعدهم من مسارعتكم في طاعته وتثاقلكم عنها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِيَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ} (129)

{ قالوا } حكاية جواب قوم موسى إياه ، فلذلك فصلت جملة القول على طريقة المحاورة ، وهذا الخبر مستعمل في الشكاية واستئثارتهم موسى ليدعو ربه أن يفرج كربهم .

والإيذاء : الإصابة بالأذى ، والأذى ما يؤلم ويحزن من قول أو فعل ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { لن يضروكم إلاّ أذى } في سورة آل عمران ( 111 ) ، وقوله : { فصَبروا على ما كُذبوا وأوذوا } في سورة الأنعام ( 34 ) ، وهو يكون ضعيفاً وقوياً ، ومرادهم هنا القوي منه ، وهو ما لحقهم من الاستعباد وتكليفهم الأعمال الشاقة عليهم في خدمة فرعون وما توعدهم به فرعون بعد بعثة موسى من القطع والصلب وقتل الأبناء ، وكأنهم أرادوا التعريض بنفاد صبرهم وأن الأذى الذي مسهم بعد بعثة موسى لم يكن بداية الأذى ، بل جاء بعد طول مدة في الأذى ، فلذلك جمعوا في كلامهم ما لحقهم قبل بعثة موسى .

وقد توهم بعض المفسرين أن هذا امتعاض منهم مما لحقهم بسبب موسى وبواسطته مستنداً إلى أن قتل الذكور منهم كان قبل مجيء موسى بسبب توقع ولادة موسى ، وكان الوعيد بمثله بعد مجيئه بسبب دعوته ، وليس ذلك بمتجه لأنه لو كان هو المراد لما كان للتعبير بقوله : { من قبل أن تأتينا } موقع ، والإتيان والمجيء مترادفان ، فذكر المجيء بعد الإتيان ليس لاختلاف المعنى ، ولكنه للتفنن وكراهية إعادة اللفظ .

والإتيان والمجيء مدلولهما واحد ، وهو بعثة موسى بالرسالة ، فجعل الفعل المعبّر عنه حين عُلق به ( قبل ) بصيغة المضارع المقترن ب ( أن ) الدالة على الاستقبال والمصدرية لمناسبة لفظ ( قبل ) لأن ما يضاف إلى ( قبل ) مستقبل بالنسبة لمدلولها ، وجُعل حين علق به ( بعد ) بصيغة الماضي المقترن بحرف ( مّا ) المصدرية لأن ( ما ) المصدرية لا تفيد الاستقبال ليناسب لفظ ( بعد ) لأن مضاف كلمة ( بعد ) ماض بالنسبة لمدلولها .

فأجابهم موسى بتقريب أن يكونوا هم الذين يرثون مُلك الأرض والذين تكون لهم العاقبة .

وجاء بفعل الرجاء دون الجزم تأدباً مع الله تعالى ، وإقصاء للاتكال على أعمالهم ليزدادوا من التقوى والتعرض إلى رضى الله تعالى ونصره . فقوله : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } ناظر إلى قوله : { إن الأرض لله } [ الأعراف : 128 ] وقوله : { ويَسْتخلفَكم في الأرض } ناظر إلى قوله { والعاقبة للمتقين } [ الأعراف : 128 ] .

والمراد بالعدو ، فرعون وحزبه ، فوصفُ عدو يوصف به الجمع قال تعالى : { هم العدو } [ المنافقون : 4 ] .

والمراد بالاستخلاف : الاستخلاف عن الله في مُلك الأرض . والاستخلاف إقامة الخليفة ، فالسين والتاء لتأكيد الفعل مثل استجاب له ، أي جعلهم أحراراً غالبين ومؤسسين ملكاً في الأرض المقدسة .

ومعنى { فينظر كيف تعملون } التحذير من أن يعملوا ما لا يرضي الله تعالى ، والتحريض على الاستكثار من الطاعة ليستحقوا وصف المتقين ، تذكيراً لهم بأنه عليم بما يعملونه .

فالنظر مستعمل في العلم بالمرئيات ، والمقصود بما { تعملون } عملهم مع الناس في سياسة ما استخلفوا فيه ، وهو كله من الأمور التي تشاهد إذ لا دخل للنيات والضمائر في السياسة وتدبير الممالك ، إلاّ بمقدار ما تدفع إليه النيات الصالحة من الأعمال المناسبة لها ، فإذا صدرت الأعمال صالحة كما يرضي الله ، وما أوصى به ، حصل المقصود ، ولا يضرها ما تكنه نفس العامل .

و ( كيف ) يجوز كونها استفهاماً فهي معلّقة لفعل ( ينظرُ ) عن المفعول ، فالتقدير فينظر جواب السؤال ب { كيف تعملون } ، ويجوز كونها مجردة عن معنى الاستفهام دالة على مجرد الكيفية ، فهي مفعول به ل { ينظرَ } كما تقدم في قوله تعالى : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } في سورة آل عمران ( 6 ) ، وقوله تعالى : { انظْر كيف نبين لهم الآيات } في سورة المائدة ( 75 ) وقد تقدم .