جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (107)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ فَأَمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه . وأما قوله : { فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } فإن معناه : فأما الذين اسودّت وجوههم ، فيقال لهم : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } . ولا بدّ ل «أمّا » من جواب بالفاء ، فلما أسقط الجواب سقطت الفاء معه ، وإنما جاز ترك ذكر «فيقال » لدلالة ما ذكر من الكلام عليه . وأما معنى قوله جلّ ثناؤه : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُني به ، فقال بعضهم : عُني به أهل قبلتنا من المسلمين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه } . . . الاَية ، لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون ، ولقد ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ ، لَيَرِدَنّ عَليّ الحَوْضَ مِمّنْ صَحِبَنَي أقْوَامٌ ، حتى إذَا رُفِعُوا إليّ ورأيْتُهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي ، فلأَقُولَنّ رَبّ أصحابِي أصحَابِي ، فَلَيُقالَنّ إنّكَ لا تَدْرِي ما أحْدَثُوا بَعْدَكَ » . وقوله : { وأمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ } هؤلاء أهل طاعة الله والوفاء بعهد الله ، قال الله عز وجل : { فَفِي رحْمة اللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ } .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن حماد بن سلمة والربيع بن صبيح ، عن أبي مجالد ، عن أبي أمامة : { فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُم بَعْدَ إيَمانِكُمْ } قال : هم الخوارج .

وقال آخرون : عنى بذلك كل من كفر بالله بعد الإيمان الذي آمن حين أخذ الله من صلب آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بما بين في كتابه . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عليّ بن الهيثم ، قال : أخبرنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، في قوله : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه } قال : صاروا يوم القيامة فريقين ، فقال لمن اسودّ وجهه وعيرهم : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } قال : هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم ، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم ، وأقرّوا كلهم بالعبودية ، وفطرهم على الإسلام ، فكانوا أمة واحدة مسلمين ، يقول : أكفرتم بعد إيمانكم ، يقول بعد ذلك الذي كان في زمان آدم ، وقال في الاَخرين : الذين استقاموا على إيمانهم ذلك ، فأخلصوا له الدين والعمل ، فبيض الله وجوههم ، وأدخلهم في رضوانه وجنته .

وقال آخرون : بل الذين عنوا بقوله : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } : المنافقون . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه } . . . الاَية ، قال : هم المنافقون كانوا أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم ، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم .

وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار ، وأن الإيمان الذي يوبخون على ارتدادهم عنه ، هو الإيمان الذي أقرّوا به يوم قيل لهم : { ألَسْتُ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلَى شَهِدْنا } . وذلك أن الله جلّ ثناؤه جعل جميع أهل الاَخرة فريقين : أحدهما سوداء وجوهه ، والاَخر بيضاء وجوهه ، فمعلوم إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان أن جميع الكفار داخلون في فريق من سوّد وجهه ، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بيض وجهه ، فلا وجه إذا لقول قائل عنى بقوله : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } بعض الكفار دون بعض ، وقد عمّ الله جلّ ثناؤه الخبر عنهم جميعهم ، وإذا دخل جميعهم في ذلك ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ، ثم ارتدوا كافرين بعد إلا حالة واحدة ، كان معلوما أنها المرادة بذلك .

فتأويل الاَية إذا : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيضّ وجوه قوم ، وتسودّ وجوه آخرين¹ فأما الذين اسودّت وجوههم ، فيقال : أجحدتم توحيد الله وعهده وميثاقه الذي واثقتموه عليه ، بأن لا تشركوا به شيئا ، وتخلصوا له العبادة بعد إيمانكم ، يعني : بعد تصديقكم به ، { فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } يقول : بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالإقرار به والتصديق¹ وأما الذين ابيضت وجوههم ممن ثبت على عهد الله وميثاقه ، فلم يبدل دينه ، ولم ينقلب على عقبيه بعد الإقرار بالتوحيد ، والشهادة لربه بالألوهة ، وأنه لا إله غيره { ففي رَحْمَةِ اللّهِ } يقول : فهم في رحمة الله ، يعني في جنته ونعيمها ، وما أعدّ الله لأهلها فيها ، { هُمْ فيها خَالِدُونَ } أي باقون فيها أبدا بغير نهاية ولا غاية .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (107)

وقوله تعالى : { ففي رحمة الله } أي في النعيم الذي هو{[10]} موجب رحمة الله وقوله بعد ذلك { هم فيها } تأكيد بجملتين ، إذ كان الكلام يقوم دونها .


[10]:- رواه الإمام أحمد، والحاكم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك. ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة) ومن تمام الحديث كما في الجامع الصغير: (وحط عنه ثلاثون خطيئة).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (107)

قدّم عند وصف اليوم ذكر البياض ، الَّذي هو شعار أهل النَّعيم ، تشريفاً لذلك اليوم بأنَّه يوم ظهور رحمة الله ونعمته ، ولأنّ رحمة الله سبقت غضبه ، ولأنّ في ذكر سمة أهل النَّعيم ، عقب وعيد بالعذاب ، حسرةً عليهم ، إذ يعلم السَّامع أنّ لهم عذاباً عظيماً في يوم فيه نعيم عظيم ، ثُمّ قُدّم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلاً بمساءتهم .

وقوله { أكفرتم } مقول قول محذوف يحذف مثله في الكلام لظهوره : لأنّ الاستفهام لا يصدر إلاّ من مستفهم ، وذلك القول هو جواب أمَّا ، ولذلك لم تدحل الفاء على { أكفرتم } ليظهر أن ليس هو الجواب وأن الجواب حذف برمَّته .

وقائل هذا القول مجهول ، إذ لم يتقدّم ما يدّل عليه ، فيحتمل أنّ ذلك يقوله أهل المحشر لهم وهم الَّذين عرفوهم في الدّنيا مؤمنين ، ثمّ رأوهم وعليهم سمة الكفر ، كما ورد في حديث الحوض « فليَرِدنّ عليّ أقوام أعرفهم ثمّ يُخْتلجُون دوني ، فأقولُ : أصَيْحَابي ، فيقال : إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك » والمستفهِم سلَفُهم من قومهم أو رسولهم ، فالاستفهام على حقيقته مع كنايته عن معنى التعجّب .

ويحتمل أنَّه يقوله تعالى لهم ، فالاستفهام مجاز عن الإنكار والتغليط . ثمّ إن كان المراد بالَّذين اسودّت وجوههم أهل الكتاب ، فمعنى كفرهم بعدَ إيمانهم تغييرهم شريعة أنبيائهم وكتمانهم ما كتموه فيها ، أو كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بموسى وعيسى ، كما تقدّم في قوله

{ إنّ الَّذين كفروا بعد إيمانهم } [ آل عمران : 90 ] وهذا هو المحمل البيّن ، وسياق الكلام ولفظه يقتضيه ، فإنَّه مسَوق لوعيد أولئك . ووقعت تأويلات من المسلمين وقعوا بها فيما حذّرهم منه القرآن ، فتفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات : الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " مثل أهل الردة الذين ماتوا على ذلك ، فمعنى الكفر بعد الإيمان حينئذٍ ظاهر ، وعلى هذا المعنى تأوّل الآية مالك بن أنس فيما روى عنه ابن القاسم وهو في ثالثة المسائل من سماعه من كتاب المرتدّين والمحاربين من العتبية قال : « ما آية في كتاب الله أشدّ على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية » { يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه } قال مالك : إنَّما هذه لأهل القبلة . يعني أنَّها ليست للَّذين تفرّقوا واختلفوا من الأمم قبلنا بدليل قوله { أكفرتم بعد إيمانكم } ورواه أبو غسّان مالك الهروي عن مالك عن ابن عمرَ ، ورُوي مثل هذا عن ابن عبّاس ، وعلى هذا الوجه فالمراد الَّذين أحدثوا بعد إيمانهم كفرا بالردّة أو بشنيع الأقوال الَّتي تفضي إلى الكفر ونقض الشَّريعة ، مثل الغرابية من الشيعة الَّذين قالوا بأنّ النبوءة لعلي ، ومثل غلاة الإسماعلية أتباع حمزة بن عليّ ، وأتباع الحاكم العُبيدي ، بخلاف من لم تبلغ به مقالته إلى الكفر تصريحاً ولا لزوماً بيّنا مثل الخوارج والقدرية كما هو مفصّل في كتب الفقه والكلام في حكم المتأوّلين ومن يؤول قولهم إلى لوازم سيّئة .

وذوق العذاب مجاز للإحساس وهو مجاز مشهور علاقته التقييد .