البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (107)

{ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } انظر تفاوت ما بين التقسيمين هناك جمع لمن اسودّت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب ، وهنا جعلهم مستقرّين في الرحمة ، فالرّحمة ظرف لهم وهي شاملتهم .

ولما أخبر تعالى أنَّهم مستقرّون في رحمة الله بيَّن أنّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال ، وأشار بلفظ الرّحمة إلى سابق عنايته بهم ، وأن العبد وإنْ كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى .

وقال ابن عباس : المراد بالرحمة هنا الجنة ، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعاراً بأنَّ جانب الرحمة أغلب .

وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه ، بل قال : { فذوقوا العذاب } ولما ذكر العذاب علّله بفعلهم ، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة .

وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر : فأما الذين اسوادت ، وأما الذين ابياضت بألف .

وأصل افعلّ هذا افعلل يدل ، على ذلك اسوددت واحمررت ، وأن يكون للون أو عيب حسي ، كأسود ، وأعوج ، واعور .

وأن لا يكون من مضعف كاحم ، ولا معتل لام كألمى ، وأنْ لا يكون للمطاوعة .

وندر نحو : انقضّ الحائط ، وابهار الليل ، وإشعار الرجل بفرق شعره ، وشذا رعوى ، لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب مطاوعاً لرعوته بمعنى كففته .

وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها ، ولزومه إذا لم يجأ بهما .

وقد يكون العكس .

فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى : { مدهامتان } ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى : { تزاور عن كهفهم } واحمرّ خجلاً .

وجواب أما ففي الجنة ، والمجرور خبر المبتدأ ، أي فمستقرون في الجنة .

وهم فيها خالدون جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، لم تدخل في حيز أما ، ولا في إعراب ما بعده .

دلّت على أنَّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) كيف موقع قوله : هم فيها خالدون بعد قوله : ففي رحمة الله ؟ ( قلت ) : موقع الاستئناف .

كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظعنون عنها ولا يموتون انتهى .

وهو حسن .

وقيل : جواب أما ففي الجنة هم فيها خالدون ، وهم فيها خالدون ابتداء .

وخبر وخالدون العامل في الظرفين ، وكرر على طريق التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم المقيم .

/خ109