مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (107)

ثم قال تعالى : { وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } وفيه سؤالات :

السؤال الأول : ما المراد برحمة الله ؟ .

الجواب : قال ابن عباس : المراد الجنة ، وقال المحققون من أصحابنا : هذا إشارة إلى أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمة الله ، وكيف لا نقول ذلك والعبد ما دامت داعيته إلى الفعل وإلى الترك على السوية يمتنع منه الفعل ؟ فإذن ما لم يحصل رجحان داعية الطاعة امتنع أن يحصل منه الطاعة وذلك الرجحان لا يكون إلا بخلق الله تعالى ، فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله في حق العبد فكيف يصير ذلك موجبا على الله شيئا ، فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله وبرحمته وبكرمه لا باستحقاقنا .

السؤال الثاني : كيف موقع قوله { هم فيها خالدون } بعد قوله { ففي رحمة الله } .

الجواب : كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون .

السؤال الثالث : الكفار مخلدون في النار كما أن المؤمنين مخلدون في الجنة ، ثم إنه تعالى لم ينص على خلود أهل النار في هذه الآية مع أنه نص على خلود أهل الجنة فيها فما الفائدة ؟ .

والجواب : كل ذلك إشعارات بأن جانب الرحمة أغلب ، وذلك لأنه ابتدأ في الذكر بأهل الرحمة وختم بأهل الرحمة ، ولما ذكر العذاب ما أضافه إلى نفسه ، بل قال : { فذوقوا العذاب } مع أنه ذكر الرحمة مضافة إلى نفسه حيث قال : { ففي رحمة الله } ولما ذكر العذاب ما نص على الخلود مع أنه نص على الخلود في جانب الثواب ، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم فقال : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } ولما ذكر الثواب علله برحمته فقال : { ففي رحمة الله } ثم قال في آخر الآية { وما الله يريد ظلما للعالمين } وهذا جار مجرى الاعتذار عن الوعيد بالعقاب ، وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب ، يا أرحم الراحمين لا تحرمنا من برد رحمتك ومن كرامة غفرانك وإحسانك .