اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (107)

قوله : { وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

قال ابنُ عباس : هي الجنة . {[9]}

قال المحققون : هذا إشارة إلى أن العبد - وإن كثرة طاعاتُه - لا يدخل الجنة إلا برحمة الله ؛ وذلك لأن العبد ما دامت داعيته إلى الفعل ، والترك سواء ، يمتنع منه الفعل ، فإذا لم يحصل رُجْحان داعية الطاعة ، لم تحصل منه الطاعة ، وذلك الرُّجْحان لا يكون إلا بخلق الله - تعالى - فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله تعالى في حق العبد ، فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً كما تقوله المعتزلة ؟ فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله - تعالى - وبرحمته ، وبكرمه ، لا باستحقاقنا .

قرأ أبو الجوزاء ، وابنُ يَعْمُرَ : اسْوَادَّتْ ، وابياضَّتْ - بألف{[10]} - وقد تقدمت قراءتهما : تبياض ، وتسوادُّ ، وهذا قياسها ، وأصْل " افْعَلَّ " هذا أن يكون دالاً على عَيْبٍ حِسِّيٍّ - ك " اعورَّ واسود واحْمَرَّ " - وأن لا يكون من مضعف كأجَمَّ ، ولا معتل اللام كألْمَى ، وأن يكون للمطاوعة ، وندر نحو انقضَّ الحائط ، وابْهَارَّ الليل ، واشعارَّ الرجل - تفرَّق شَعْرُه - إذْ لا دلالةَ فيه على عَيْبٍ ، ولا لون ، وندر - أيضاً - ارْعَوَى ، فإنه معتل اللام ، مطاوع لرعوته - بمعنى ، كففته - وليس دالاًّ على عيب ، ولا لون ، وأما دخول الألف في " افْعَلَّ " هذا - فدالٌّ على عُرُوضِ ذلك المعنى ، وعدمها دالٌّ على ثبوته واستقراره ، فإذا قلتَ : اسوادَّ وجْهُه ، دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عُروض فيه ، وإذا قلت : اسوادَّ ، دل على حدوثه ، هذا هو الغالب ، وقد يُعْكَس ، قال تعالى : { مُدْهَامَّتَانِ } [ الرحمن : 64 ] - فالقصد الدلالة على لزوم الوصف بذلك للجنتين - وقال : { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } [ الكهف : 17 ] القصد به العروض لازورار الشمس ، لا الثبوت والاستقرار - كذا قيل - وفيه نظر ؛ لأن المقصود وَصْف الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصَّة .

فصل

قال بعض المفسرين : بياض الوجوه وسوادها ، إنما يحصل عند قيامهم من قبورهم للبعث ، فتكون وجوه المؤمنين مبيضة ، ووجوه الكافرين مسودة .

وقيل : عند الميزان ، إذا رجحت حسناته ابْيَضَّ وجهه ، وإذا رجحت سيئاته اسوَدَّ وجهه .

قيل : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذ قرأ المؤمن كتابه ، فرأى حسناته استبشر ، ابيضَّ وجْهُه ، وإذا قرأ الكافر كتابَه ، فرأى سيئاته اسوَدَّ وجهه .

وقيل : إن ذلك عند قوله تعالى : { وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] .

قيل : يُؤمَرُ كلُّ فريق بأن يجتمع إلى معبوده ، فإذا انتهَوا إليه حزنوا واسودَّتْ وجوهُهُمْ .

قوله : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } فيها وجهان :

أحدهما : أن الجارَّ متعلق ب " خالِدُونَ " ، و " فِيهَا " تأكيد لفظي للحرف ، والتقدير : فهم خالدون في رحمة الله فيها . وقد تقرر أنه لا يؤكد الحرف تأكيداً لفظياً ، إلا بإعادة ما دخل عليه ، أو بإعادة ضميره - كهذه الآية - ولا يجوز أن يعود - وحْدَه - إلا في ضرورةٍ .

كقوله : [ الرجز ]

حَتَّى تَرَاهَا وكَأنَّ وكأنْ *** أعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ{[11]}

كذا ينشدون هذا البيت .

وأصرح منه في الباب - قول الشاعر : [ الوافر ]

فَلاَ وَاللهِ لا يُلْقَى لِمَا بِي *** وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ{[12]}

ويحسن ذلك إذا اختلف لفظهما .

كقوله : [ الطويل ]

فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنني عَنْ بِمَا بِهِ *** أصَعَّدَ في عُلُوِ الْهَوَى أمْ تَصَوَّيَا{[13]}

للهم إلا أن يكون ذلك الحرفُ قائماً مقام جملة ، فيُكَرَّر - وحده - كحروف الجواب ، مثل : نَعَمْ نَعَمْ ، وبلى بلى ، ولا لا .

والثاني : أن قوله : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } : خبر لمبتدأ مُضْمَر ، والجملة - بأسْرها - جواب : " أما " والتقدير : فهم مستقرون في رحمة الله ، وتكون الجملة - بعده - من قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، دلت على أن الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود ، فلا تعلُّق لها بالجملة قبلها من حيث الإعراب .

قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : كيف موقع قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } بعد قوله : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } ؟

قلت : موقع الاستئناف ، كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظنعون عنها ، ولا يموتون .

فإن قيل : الكُفَّار مخلَّدون في النار ، كما أن المؤمنين مخلَّدون في الجنة ، فما الحكمة في ذكر خلود المؤمنين ولم يذكر خلود الكافرين ؟

فالجواب : أن ذلك يُشْعِر بأنَّ جانبَ الرحمةِ أغْلَب ؛ لأنه ابتدأ بذكر أهل الرحمة ، وختم بهم ، لمَّا ذكر العذابَ لم يُضِفْه إلى نفسه ، بل قال : { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ } ، وأضاف ذكر الرحمة إلى نفسه ، فقال : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } ، ولما ذكر العذاب ما نصَّ على الخلود ، ونصَّ عليه في جانب الرحمة ، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم ، فقال : { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ولما ذكر الثواب علَّلَه برحمته ، فقال : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } ثم قال - في آخر الآية- :

{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 108 ] ، وكل ذلك يُشْعِر بأن جانبَ الرحمة مُغَلَّب .


[9]:سقط من: ب.
[10]:الجامع لأحكام القرآن 20/91.
[11]:سقط في ب.
[12]:سقط في ب.
[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.