قوله : { وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
قال ابنُ عباس : هي الجنة . {[9]}
قال المحققون : هذا إشارة إلى أن العبد - وإن كثرة طاعاتُه - لا يدخل الجنة إلا برحمة الله ؛ وذلك لأن العبد ما دامت داعيته إلى الفعل ، والترك سواء ، يمتنع منه الفعل ، فإذا لم يحصل رُجْحان داعية الطاعة ، لم تحصل منه الطاعة ، وذلك الرُّجْحان لا يكون إلا بخلق الله - تعالى - فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله تعالى في حق العبد ، فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً كما تقوله المعتزلة ؟ فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله - تعالى - وبرحمته ، وبكرمه ، لا باستحقاقنا .
قرأ أبو الجوزاء ، وابنُ يَعْمُرَ : اسْوَادَّتْ ، وابياضَّتْ - بألف{[10]} - وقد تقدمت قراءتهما : تبياض ، وتسوادُّ ، وهذا قياسها ، وأصْل " افْعَلَّ " هذا أن يكون دالاً على عَيْبٍ حِسِّيٍّ - ك " اعورَّ واسود واحْمَرَّ " - وأن لا يكون من مضعف كأجَمَّ ، ولا معتل اللام كألْمَى ، وأن يكون للمطاوعة ، وندر نحو انقضَّ الحائط ، وابْهَارَّ الليل ، واشعارَّ الرجل - تفرَّق شَعْرُه - إذْ لا دلالةَ فيه على عَيْبٍ ، ولا لون ، وندر - أيضاً - ارْعَوَى ، فإنه معتل اللام ، مطاوع لرعوته - بمعنى ، كففته - وليس دالاًّ على عيب ، ولا لون ، وأما دخول الألف في " افْعَلَّ " هذا - فدالٌّ على عُرُوضِ ذلك المعنى ، وعدمها دالٌّ على ثبوته واستقراره ، فإذا قلتَ : اسوادَّ وجْهُه ، دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عُروض فيه ، وإذا قلت : اسوادَّ ، دل على حدوثه ، هذا هو الغالب ، وقد يُعْكَس ، قال تعالى : { مُدْهَامَّتَانِ } [ الرحمن : 64 ] - فالقصد الدلالة على لزوم الوصف بذلك للجنتين - وقال : { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } [ الكهف : 17 ] القصد به العروض لازورار الشمس ، لا الثبوت والاستقرار - كذا قيل - وفيه نظر ؛ لأن المقصود وَصْف الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصَّة .
قال بعض المفسرين : بياض الوجوه وسوادها ، إنما يحصل عند قيامهم من قبورهم للبعث ، فتكون وجوه المؤمنين مبيضة ، ووجوه الكافرين مسودة .
وقيل : عند الميزان ، إذا رجحت حسناته ابْيَضَّ وجهه ، وإذا رجحت سيئاته اسوَدَّ وجهه .
قيل : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذ قرأ المؤمن كتابه ، فرأى حسناته استبشر ، ابيضَّ وجْهُه ، وإذا قرأ الكافر كتابَه ، فرأى سيئاته اسوَدَّ وجهه .
وقيل : إن ذلك عند قوله تعالى : { وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] .
قيل : يُؤمَرُ كلُّ فريق بأن يجتمع إلى معبوده ، فإذا انتهَوا إليه حزنوا واسودَّتْ وجوهُهُمْ .
قوله : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } فيها وجهان :
أحدهما : أن الجارَّ متعلق ب " خالِدُونَ " ، و " فِيهَا " تأكيد لفظي للحرف ، والتقدير : فهم خالدون في رحمة الله فيها . وقد تقرر أنه لا يؤكد الحرف تأكيداً لفظياً ، إلا بإعادة ما دخل عليه ، أو بإعادة ضميره - كهذه الآية - ولا يجوز أن يعود - وحْدَه - إلا في ضرورةٍ .
حَتَّى تَرَاهَا وكَأنَّ وكأنْ *** أعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ{[11]}
وأصرح منه في الباب - قول الشاعر : [ الوافر ]
فَلاَ وَاللهِ لا يُلْقَى لِمَا بِي *** وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ{[12]}
فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنني عَنْ بِمَا بِهِ *** أصَعَّدَ في عُلُوِ الْهَوَى أمْ تَصَوَّيَا{[13]}
للهم إلا أن يكون ذلك الحرفُ قائماً مقام جملة ، فيُكَرَّر - وحده - كحروف الجواب ، مثل : نَعَمْ نَعَمْ ، وبلى بلى ، ولا لا .
والثاني : أن قوله : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } : خبر لمبتدأ مُضْمَر ، والجملة - بأسْرها - جواب : " أما " والتقدير : فهم مستقرون في رحمة الله ، وتكون الجملة - بعده - من قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، دلت على أن الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود ، فلا تعلُّق لها بالجملة قبلها من حيث الإعراب .
قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : كيف موقع قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } بعد قوله : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } ؟
قلت : موقع الاستئناف ، كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظنعون عنها ، ولا يموتون .
فإن قيل : الكُفَّار مخلَّدون في النار ، كما أن المؤمنين مخلَّدون في الجنة ، فما الحكمة في ذكر خلود المؤمنين ولم يذكر خلود الكافرين ؟
فالجواب : أن ذلك يُشْعِر بأنَّ جانبَ الرحمةِ أغْلَب ؛ لأنه ابتدأ بذكر أهل الرحمة ، وختم بهم ، لمَّا ذكر العذابَ لم يُضِفْه إلى نفسه ، بل قال : { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ } ، وأضاف ذكر الرحمة إلى نفسه ، فقال : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } ، ولما ذكر العذاب ما نصَّ على الخلود ، ونصَّ عليه في جانب الرحمة ، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم ، فقال : { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ولما ذكر الثواب علَّلَه برحمته ، فقال : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } ثم قال - في آخر الآية- :
{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 108 ] ، وكل ذلك يُشْعِر بأن جانبَ الرحمة مُغَلَّب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.