الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (107)

قوله تعالى : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } : فيه وجهان : أحدُهما : أنَّ الجار متعلِّقٌ بخالِدون . و " فيها " تأكيدٌ لفظي للحرفِ ، والتقديرُ : فهم خالدون في رحمةِ الله فيها ، وقد تقرَّر أنه لا يُؤَكَّد الحرفُ تأكيداً لفظياً إلا بإعادةِ ما دَخَلَ عليه أو بإعادةِ ضميرِه كهذه الآيةِ ، ولا يجوز أن يعودَ وحدَه إلا في ضرورةِ كقوله :

حَتَّى [ تراها ] وكأنَّ وكأنْ *** أعناقَها مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ

كذا ينشدون هذا البيتَ ، وأصرحُ منه في البابِ :

فلا واللهِ لا يُلْفَى لِما بي *** ولا لَلِما بهمْ أبداً دواءُ

ويَحْسُن ذلك إذا اختلف لفظُهما كقولِه :

فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنَنِي عن بما به *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اللهم إلا أَنْ يكونَ ذلك الحرفُ قائماً مقامَ جملةٍ فيكرَّرُ وحدَه كحروف الجواب كنعم نعم وبلى بلى ولا لا .

والثاني : أنَّ قولَه : { فَفِي رَحْمَةِ } خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ ، والجملة بأسرها جوابُ " أمَّا " والتقديرُ : فهم مستقرون في رحمةِ الله ، وتكون الجملَةُ بعدَه مِنْ قولِه : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } جملةً مستقلةً من مبتدأ وخبرٍ دَلَّتْ على أنَّ الاستقرارَ في الرحمةِ على سبيلِ الخلود ، فلا تَعَلُّقَ لها بالجملةِ قبلَها من حيثُ الإِعرابُ .

قال الزمخشري : " فإنْ قلت : كيفَ موقعُ قولِه : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } بعد قولِهِ : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ } ؟ قلت : موقعُ الاستئناف ، كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل : هم فيها خالدون لا يَظْعَنُون عنها ولا يموتون " .

وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر " اسوادَّتْ وابياضَّتْ " بألف ، وقد تقدَّم أن قراءتَهما : تَبياضُّ وتَسْوَادُّ وهذا قياسُها . وأصلُ افْعَلَّ هذا أن يكون دالاً على لون أو عيب حسي كاعْوَرَّ واسْوَدَّ واحْمَرَّ ، وألاَّ يكون من مضعفٍ كأُحِمَّ ، ولا معتلِّ اللام كَأَلْهى ، وألاَّ يكونَ للمطاوعة ، ونَدَر " أنهارَّ الليل " و " اشْعارَّ الرجل " أي تفرَّق شعره ، إذ لا دلالة فيهما على عيب ولا لون ، ونَدَرَ أيضاً " ارعَوَّى " فإنه معتلُّ اللام مطاوعٌ ل " رَعَوْتُه " بمعنى كففته ، وليس دالاًّ على عيبٍ ولا لونٍ ، وأمَّا دخولُ الألف في افْعَلَّ هذا فدالٌّ على عُروض ذلك المعنى ، وعدمُها دالٌّ على ثبوتِهِ واستقرارِهِ ، فإذا قلت : اسودَّ وجهه دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عروض فيه ، وإذا قلت " اسوادَّ " دلَّ على حدوثِهِ ، هذا هو الغالب وقد يُعْكَسُ قال تعالى : { مُدْهَآمَّتَانِ } [ الرحمن : 64 ] والقصدُ به الدلالةُ على لزومِ الوصفِ بذلك للجنتين ، وقولُه تعالى : { تَزْوَرَّ عَن كَهْفِهِم } [ الكهف : 17 ] القصدُ به العروضُ لازْوِرار الشمس لا الثبوتُ والاستقرار ، كذا قيل ، وفيه نظرٌ محتمل ، لأنَّ المقصود وصفُ الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصة .

وقوله : { فَذُوقُواْ } من بابِ الاستعارة ، جَعَلَ العذابَ شيئاً يُدْرَكُ بحاسة الأكل والذوق تصويراً له بصورةِ ما يُذاق . وقوله : { بِمَا كُنْتُمْ } الباءُ سببيةٌ ، و " ما " مصدريةٌ ولا تكونُ بمعنى الذي لاحتياجِها إلى العائد ، / وتقديرُهُ غيرُ جائزٍ لعدمِ الشروطِ المجوِّزَةِ لحَذْفِهِ .