القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ يَتَلَقّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ * مّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } .
يقول تعالى ذكره : ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه ، حين يتلقى الملَكان ، وهما المتلقيان عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشّمالِ قَعِيد وقيل : عنى بالقعيد : الرصد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : قَعِيدٌ قال : رَصَد .
واختلف أهل العربية في وجه توحيد قعيد ، وقد ذُكر من قبل متلقيان ، فقال بعض نحويي البصرة : قيل : عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشّمالِ قَعِيدٌ ولم يقل : عن اليمين قعيد ، وعن الشمال قعيد ، أي أحدهما ، ثم استغنى ، كما قال : نُخْرِجْكُمْ طِفْلاً ثم استغنى بالواحد عن الجمع ، كما قال : فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا . وقال بعض نحويي الكوفة قَعِيدٌ يريد : قعودا عن اليمين وعن الشمال ، فجعل فعيل جمعا ، كما يجعل الرسول للقوم وللاثنين ، قال الله عزّ وجلّ : إنا رَسُولُ رَبّ العالَمِينَ لموسى وأخيه ، وقال الشاعر :
أَلِكْنِي إلَيْها وَخَيْرُ الرّسُو *** لِ أعْلَمُهُمْ بِنَوَاحي الخَبرْ
فجعل الرسول للجمع ، فهذا وجه وإن شئت جعلت القعيد واحدا اكتفاء به من صاحبه ، كما قال الشاعر :
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنا وأنْتَ بِمَا *** عِنْدَكَ رَاضٍ والرّأيُ مُخْتَلِفُ
إنّي ضَمِنْتُ لِمَنْ أتانِي ما جَنى *** وأَبى فَكانَ وكُنْتُ غَيرَ غَدُورِ
وأما قوله تعالى : { إذ يتلقى المتلقيان } فقال المفسرون العامل في : { إذ } ، { أقرب } ، ويحتمل عندي أن يكون العامل فيه فعلاً مضمراً تقديره : اذكر { إذ يتلقى المتلقيان } ، ويحسن هذا المعنى ، لأنه أخبر خبراً مجرداً بالخلق والعلم بخطرات الأنفس والقرب بالقدرة والملك ، فلما تم الإخبار ، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر وتبين وروده عند السامع ، فمنها { إذ يتلقى المتلقيان } ، ومنها مجيء سكرة الموت ، ومنها النفخ في الصور ومنها مجيء كل نفس ، و { المتلقيان } : الملكان الموكلان بكل إنسان : ملك اليمين الذي يكتب الحسنات ، وملك الشمال الذي يكتب السيئات . قال الحسن : الحفظة : أربعة ، اثنان بالنهار واثنان بالليل .
قال القاضي أبو محمد : ويؤيد ذلك الحديث ، «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار » الحديث بكامله{[10526]} . ويروى أن ملك اليمين أمير على ملك الشمال ، وأن العبد إذا أذنب يقول ملك اليمين للآخر تثبت لعله يتوب رواه إبراهيم التيمي وسفيان الثوري .
و { قعيد } معناه : قاعد ، وقال قوم هو بمنزلة أكيل ، فهو بمعنى مقاعد وقال الكوفيون : أراد قعوداً فجعل الواحد موضع الجنس ، والأول أصوب لأن المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان ، وقال مجاهد : { قعيد } : رصد ومذهب سيبويه أن التقدير عن اليمين قعيد ، فاكتفى بذكر الآخر عن ذكر الأول ومثله عنده قول الشاعر [ كثير عزة ] : [ الطويل ]
وعزة ممطول معنّى غريمها . . . {[10527]}
ومثله قول الفرزدق : [ الكامل ]
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى . . . وأبى وكان وكنت غير غدور{[10528]}
وهذه الأمثلة كثيرة ، ومذهب المبرد : أن التقدير عن اليمين { قعيد } وعن الشمال فأخر { قعيد } عن مكانه ومذهب الفراء أن لفظ { قعيد } يدل على الاثنين والجمع فلا يحتاج إلى تقدير غير الظاهر .
يتعلق { إذْ } بقوله { أقرب } [ ق : 16 ] لأن اسم التفضيل يعمل في الظرف وإن كان لا يعمل في الفاعل ولا في المفعول به واللغة تتوسع في الظروف والمجرورات ما لا تتوسع في غيرها ، وهذه قاعدة مشهورة ثابتة والكلام تخلص للموعظة والتهديد بالجزاء يوم البعث والجزاء من إحصاء الأعمال خيرها وشرها المعلومة من آيات كثيرة في القرآن . وهذا التخلص بكلمة { إذ } الدالة على الزمان من ألطف التخلص .
وتعريف { المُتَلَقِّيان } تعريف العهد إذا كانت الآية نزلت بعد آيات ذُكر فيها الحفظة ، أو تعريفُ الجنس ، والتثنية فيها للإشارة إلى أن هذا الجنس مقسم اثنين اثنين .
والتلقّي : أخذ الشيء من يد معطيه . استعير لتسجيل الأقوال والأعمال حين صدورها من الناس . وحذف مفعول { يتلقى } لدلالة قوله : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } . والتقدير : إذ تحصى أقوالهم وأعمالهم . فيؤخذ من الآية أن لكل إنسان ملَكيْن يحصيان أعماله وأن أحدهما يكون من جهة يمينه والآخر من جهة شماله . وورد في السنة بأسانيد مقبولة : أن الذي يَكون عن اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات وورد أنهما يلازمان الإنسان من وقت تكليفه إلى أن يموت .
وقوله : { عن اليمين وعن الشمال قعيد } يجوز أن يكون { قعيد } بدلاً من { المتلقِّيان } بدل بعض ، و { عن اليمين } متعلق ب { قعيد } ، وقدم على متعلَّقه للاهتمام بما دل عليه من الإحاطة بجانبيه وللرعاية على الفاصلة . ويجوز أن يكون { عن اليمين } خبراً مقدماً ، و { قعيد } مبتدأ وتكون الجملة بياناً لجملة { يتلقى المتلقيان } .
وعطف قوله : { وعن الشمال } على جملة { يتلقى } وليس عطفاً على قوله : { عن اليمين } لأنه ليس المعنى على أن القعيد قعيد في الجهتين ، بل كل من الجهتين قعيد مستقل بها . والتقدير : عن اليمين قعيد ، وعن الشمال قعيد آخر . والتعريف في { اليمين } و { الشمال } تعريف العهد أو اللام عوض عن المضاف إليه ، أي عن يمين الإنسان وعن شماله .
والقعيد : المُقَاعد مثل الجَليس للمجالس ، والأكيل للمؤاكل ، والشَّرِيب للمشارب ، والخليطِ للمخالط . والغالب في فعيل أن يكون إما بمعنى فاعل ، وإما بمعنى مفعول ، فلمّا كان في المفاعلة معنى الفاعل والمفعول معاً ، جاز مجيء فعيل منه بأحد الاعتبارين تعويلاً على القرينة ، ولذلك قالوا لامرأة الرجل قعيدته . والقعيد مستعار للملازم الذي لا ينفك عنه كمَا أطلقوا القعيد على الحافظ لأنه يلازم الشيء الموكل بحفظه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.