جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} (24)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ قَالُواْ يَامُوسَىَ إِنّا لَنْ نّدْخُلَهَآ أَبَداً مّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلآ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } . .

وهذا خبر من الله جلّ ذكره عن قول الملإ من قوم موسى لموسى ، إذ رغبوا في جهاد عدوّهم ، ووعدوا نصر الله إياهم ، إن هم ناهضوهم ، ودخلوا عليهم باب مدينتهم أنهم قالوا له : إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدا يعنون : إنا لن ندخل مدينتهم أبدا . والهاء والألف في قوله : إنّا لَنْ نَدْخُلَها من ذكر المدينة . ويعنون بقولهم : أبدا : أيام حياتنا ما داموا فيها ، يعني : ما كان الجبارون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها الله لهم وأُمروا بدخولها . فاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ لا نجيء معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم ، ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربك فتقاتلانهم .

وكان بعضهم يقول في ذلك : ليس معنى الكلام : اذهب أنت وليذهب معك ربك فقاتلا ، ولكن معناه : اذهب أنت يا موسى ، وليُعِنْك ربك ، وذلك أن الله لا يجوز عليه الذهاب . وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له لو كان الخبر عن قوم مؤمنين ، فأما قوم أهل خلاف على الله عزّ ذكره وسوله ، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عزّ وجلّ وافترَوا عليه إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم . وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قال قوم موسى لموسى .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن مخارق ، عن طارق : أن المقداد بن الأسود قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكم مقاتلون .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية ، حين صدّ المشركون الهدي وحيل بينهم وبين مناسكهم : «إنّى ذَاهِبٌ بالهَدْي فَناحِرُهُ عِنْدَ البَيْتِ » . فقال له المقداد بن الأسود : أما والله لا نكون كالملإ من بني إسرائيل ، إذ قالوا لنبيهم : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ، ولكن : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون فلما سمعها أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم تتابعوا على ذلك .

وكان ابن عباس والضحاك بن مزاحم وجماعة غيرهما يقولون : إنما قالوا هذا القول لموسى عليه السلام حين تبين لهم أمر الجبارين وشدة بطشهم .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : أمر الله جلّ وعزّ بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم ، فلما كانوا قريبا من المدينة قال لهم موسى : ادخلوها فأبوا وجبنوا ، وبعثوا اثني عشر نقيبا لينظروا إليهم . فانطلقوا فنظروا ، فجاءوا بحبة فاكهة من فاكهتهم بوقر الرجل ، فقالوا : قدروا قوّة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم فعند ذلك قالوا لموسى : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس نحوه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} (24)

ثم إن بني إسرائيل لجوا في عصيانهم وسمعوا من العشرة النقباء الجواسيس الذين خوفوهم أمر الجبارين ووصفوا لهم قوة الجبارين وعظم خلقهم فصمموا على خلاف أمر الله تعالى : و { قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون } وهذه عبارة تقتضي كفراً ، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى اذهب أنت وربك يعينك وأن الكلام معصية لا كفر .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقولهم { فقاتلا } يقطع بهذا التأويل ، وذكر النقاش عن بعض المفسرين أن المراد بالرب هنا هارون لأنه كان اسنّ من «موسى » وكان معظماً في بني إسرائيل محبباً لسعة خلقه ورحب صدره ، فكأنهم قالوا اذهب انت وكبيرك .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بعيد ، وهارون إنما كان وزيراً لموسى وتابعاً له في معنى الرسالة ، ولكنه تأويل يخلص بني إسرائيل من الكفر ، وذكر الطبري عن قتادة أنه قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على قتال قريش في عام الحديبية ، جمع العسكر وكلم الناس في ذلك فقال له المقداد بن الأسود : لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون » لكنا نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون .

وذكر النقاش أن الأنصار قالت هذه المقالة للنبي صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو محمد : وجميع هذا وهم ، غلط قتادة رحمه الله في وقت النازلة ، وغلط النقاش في قائل المقالة ، والكلام إنما وقع في غزوة بدر حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذفران فكلم الناس وقال لهم : أشيروا عليَّ أيها الناس ، فقال له المقداد هذه المقالة في كلام طويل ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، ثم تكلم من الأنصار سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى ولكن سبقه المقداد إلى التمثيل بالآية .

قال القاضي أبو محمد : وتمثل المقداد بها وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يقتضي أن الرب إنما أريد به الله تعالى ، وُيؤنس أيضاً في إيمان بني إسرائيل ، لأن المقداد قد قال : اذهب أنت وربك فقاتلا ، وليس لكلامه معنى إلا أن الله تعالى يعينك ويقاتل معك ملائكته ونصره ، فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك ، أي اذهب أنت ، ويخرجهم الله بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها ، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها ، وحسنت عبارة المقداد لاقتران الطاعة والإقدام بها .