القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : فَمَكَثَ غيرَ بَعِيدٍ فمكث سليمان غير طويل من حين سأل عن الهدهد ، حتى جاء الهدهد .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : فَمَكَثَ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم : «فَمَكُثَ » بضمّ الكاف ، وقرأه عاصم بفتحها ، وكلتا القراءتين عندنا صواب ، لأنهما لغتان مشهورتان ، وإن كان الضمّ فيها أعجب إليّ ، لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما .
وقوله : فَقالَ أحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ يقول : فقال الهدهد حين سأله سليمان عن تخلفه وغيبته : أحطب بعلم ما لم تحط به أنت يا سليمان . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أحَطْتُ بِمَا لَمْ تحِطْ بِهِ قال : ما لم تعلم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه فمَكَثَ غيرَ بَعيدٍ ثم جاء الهدهد ، فقال له سليمان : ما خلّفك عن نوبتك ؟ قال : أحطت بما لم تحط به .
وقوله : وَجِئْتُكَ مِنْ سَبإ بِنَبإ يَقِينٍ يقول : وجئتك من سبإ بخبر يقين . وهو ما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه وَجِئْتُكَ مِنْ سَبإٍ بِنَبإٍ يَقِينٍ : أي أدركت ملكا لم يبلغه ملكك .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : مِنْ سَبإٍ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة مِنْ سَبإٍ بالإجراء . المعني أنه رجل اسمه سبأ . وقرأه بعض قرّاء أهل مكة والبصرة مِنْ سَبإٍ بترك الإجراء ، على أنه اسم قبيلة أو لامرأة .
والصواب من القول في ذلك أن يُقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب فالإجراء في سبأ ، وغير الإجراء صواب ، لأن سبأ إن كان رجلاً كما جاء به الأثر ، فإنه إذا أريد به اسم الرجل أُجري ، وإن أريد به اسم القبيلة لم يُجْرَ ، كما قال الشاعر في إجرائه :
الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ في ذَرَا سَبإٍ *** قَدْ عَضّ أعْناقَهُمْ جِلدُ الجَوَاميسِ
يروى : ذرا ، وذرى ، وقد حُدثت عن الفرّاء عن الرؤاسي أنه سأل أبا عمرو بن العلاء كيف لم يجر سبأ ؟ قال : لست أدري ما هو فكأن أبا عمرو ترك إجراءه ، إذ لم يدرِ ما هو ، كما تفعل العرب بالأسماء المجهولة التي لا تعرفها من ترك الإجراء . حكي عن بعضهم : هذا أبو معرورَ قد جاء ، فترك إجراءه إذ لم يعرفه في أسمائهم . وإن كان سبأ جبلاً ، أجري لأنه يُراد به الجبل بعينه ، وإن لم يجر فلأنه يجعل اسما للجبل وما حوله من البقعة .
{ فمكث غير بعيد } زمانا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه ، وقرأ عاصم بفتح الكاف . { فقال أحطت بما لم تحط به } يعني حال سبأ ، وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه له على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر لديه علمه ، وقرئ بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق . { وجئتك من سبأ } وقرأ ابن كثير برواية البزي وأبو عمرو غير مصروف على تأويل القبيلة والبلدة والقواس بهمزة ساكنة . { بنبأ يقين } بخبر متحقق روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام بها ما شاء ، ثم توجه إلى اليمن فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء ظهيرة فأعجبته نزاهة أرضها فنزل بها ثم لم يجد الماء -وكان الهدهد رائده لأنه يحسن طلب الماء- فتفقده لذلك فلم يجده إذ حلق حين نزل سليمان فرأى هدهدا واقعا فانحط الهي فتواصفا وطار معه لينظر ما وصف له ، ثم رجع بعد العصر وحكى ما حكى ، ولعل في عجائب قدرة الله وما خص به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك يستكبرها من يعرفها ويستنكرها من ينكرها .
الفاء لتفريع الحكاية عطفت جملة على جملة وضمير { مكث } للهدهد .
والمكث : البقاء في المكان وملازمته زمناً ما ، وفعله من باب كرم ونصر . وقرأه الجمهور بالأول . وقرأ عاصم وروح عن يعقوب بالثاني .
وأطلق المكث هنا على البُطْء لأنّ الهدهد لم يكن ماكثاً بمكان ولكنه كان يطير وينتقل ، فأطلق المكث على البُطء مجاز مرسل لأن المكث يستلزم زمناً .
و { غير بعيد } صفة لاسم زمن أو اسم مكان محذوف منصوب على الظرفية ، أي مكث زمناً غير بعيد ، أو في مكان غير بعيد ، وكلا المعنيين يقتضي أنه رجع إلى سليمان بعد زمن قليل .
و { غير بعيد } قريب قرباً يوصف بضد البعد ، أي يوشك أن يكون بعيداً . وهذا وجه إيثار التعبير ب { غيرَ بعيد } لأن { غير } تفيد دفع توهم أن يكون بعيداً ، وإنما يتوهم ذلك إذا كان القُرب يُشبه البُعد .
والبُعد والقرب حقيقتهما من أوصاف المكان ويستعاران لقلة الحصة بتشبيه الزمن القصير بالمكان القريب وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة قال تعالى : { وما قوم لوط منكم ببعيد } [ هود : 89 ] .
والفاء في { فقال } عاطفة على « مكُث » وجُعل القول عقيب المكث لأنه لما حضر صدر القول من جهته فالتعقيب حقيقي .
والقولُ المسند إلى الهدهد إنْ حمل على حقيقة القول وهو الكلام الذي من شأنه أن ينطق به الناس ، فقول الهدهد هذا ليس من دلالة منطق الطير الذي عُلّمه سليمان لأن ذلك هو المنطق الدال على ما في نفوس الطير من المدركات وهي محدودة كما قدمنا بيانه عند قوله تعالى : { علّمنا منطق الطير } [ النمل : 16 ] . وليس للهدهد قِبَل بإدراك ما اشتمل عليه القول المنسوب إليه ولا باستفادة الأحوال من مشاهدة الأقوام والبلدان حتى تَخطر في نفسه وحتى يعبر عنها بمنطقه الذي عُلّم سليمانُ دلالتَه كما قدمناه . فهذا وحي لسليمان أجراه الله على لسان الهدهد .
وأما قول سليمان { سننظر أصدقتَ أم كنتَ من الكاذبين } [ النمل : 27 ] فيجوز أن يكون سليمان خشي أن يكون ذلك الكلام الذي سمعه من تلقاء الهدهد كلاماً ألقاه الشيطان من جانب الهدهد ليضَلّل سليمان ويفتنه بالبحث عن مملكة موهومة ليسخر به كما يسخر بالمتثائِب ، فعزم سليمان على استثبات الخبر بالبحث الذي لا يترك ريبة في صحته خزياً للشيطان .
ولنشتغل الآن بما اشتمل عليه هذا الكلام فابتداؤه ب { أحطتُ بما لم تُحِطْ به } تنبيه لسليمان بأن في مخلوقات الله ممالك وملوكاً تداني مُلكه أو تفوقه في بعض أحوال الملك جعله الله مثلاً له ، كما جعل عِلم الخضر مثلاً لموسى عليه السلام لئلا يغتر بانتهاء الأمر إلى ما بلغه هو .
وفيه استدعاء لإقباله على ما سيُلقى إليه بشراشره لأهمية هذا المطلع في الكلام ، فإن معرفة أحوال الممالك والأمم من أهم ما يعنى به ملوك الصلاح ليكونوا على استعداد بما يُفاجئهم من تلقائها ، ولتكون من دواعي الازدياد من العمل النافع للمملكة بالاقتداء بالنافع من أحوال غيرها والانقباض عما في أحوال المملكة من الخلل بمشاهدة آثار مثله في غيرها .
ومن فقرات الوزير ابن الخطيب الأندلسي{[307]} : فأخبارُ الأقطار مما تُنِفق فيه الملوك أسمارها ، وترقم ببديع هالاته أقمارها ، وتستفيد منه حسن السِيَر ، والأمنَ من الغِيَر ، فتستعين على الدهر بالتجارب . . وتستدل بالشاهد على الغايب اه .
والإحاطة : الاشتمال على الشيء وجعله في حَوزة المحيط . وهي هنا مستعارة لاستيعاب العلم بالمعلومات كقوله تعالى : { وكيف تصبر على ما لم تُحطْ به خُبراً } [ الكهف : 68 ] فما صْدَقُ { ما لم تحط به } معلومات لم يحط بها علم سليمان .
و { سبأ } : بهمزة في آخره وقد يخفف اسم رجل هو عَبَّشَمْس بن يشْجُب بن يَعرُب ابن قحطان . لُقب بسبأ . قالوا : لأنه أول من سبَى في غزوه . وكان الهمز فيه لتغييره العلمية عن المصدر . وهو جدّ جذم عظيم من أجذام العرب . وذريته كانوا باليمن ثم تفرقوا كما سيأتي في سورة سبأ . وأطلق هذا الاسم هنا على ديارهم لأن { من } ابتدائية وهي لابتداء الأمكنة غالباً .
فاسم { سبأ } غلب على القبيلة المتناسلة من سبأ المذكور وهم من الجذم القحطاني المعروف بالعرب المستعربة ، أي الذين لم ينشأوا في بلاد العرب ولكنهم نزحوا من العراق إلى بلاد العرب ، وأول نازح منهم هو يَعرب ( بفتح التحتية وضم الراء ) بن قحطان ( وبالعبرانية يقطان ) بن عَابر بن شالخ بن أرفخشد ( وبالعبرانية أرفكشاد ) بن سَام بن نوح . وهذا النسب يتفق مع ما في سفر التكوين من سَام إلى عابر ، فمن عابر يفترق نسب القحطانيين من نسب العبرانيين ؛ فأما أهل أنساب العرب فيجعلون لعابر ابنين أحدهما اسمه قحطان والآخر اسمه ( فالغ ) . وأما سفر التكوين فيجعل أنّ أحدهما اسمه ( يقطن ) ولا شك أنه المسمى عند العرب قحطان ، والآخر اسمه ( فالج ) بفاء في أوله وجيم في آخره ، فوقع تغيير في بعض حروف الاسمين لاختلاف اللغتين .
ولما انتقل يعرب سكن جنوب البلاد العربية ( اليمن ) فاستقر بموضع بنى فيه مدينة ظَفارِ ( بفتح الظاء المشالة المعجمة وكسر الراء ) فهي أول مدينة في بلاد اليمن وانتشر أبناؤه في بلاد الجنوب الذي على البحر وهو بلاد ( حضرموت ) ثم بنى ابنه يَشجب ( بفتح التحتية وضم الجيم ) مدينة صنعاء وسمى البلاد باليمن ، ثم خلفه ابنه عَبَّشمس ( بتشديد الموحدة ومعناه ضوء الشمس ) وساد قومه ولقب سَبأ ( بفتحتين وهمزة في آخره ) واستقل بأهله فبنى مدينة مأرب حاضرة سبأ ، قال النابغة الجعدي :
من سبأ الحاضرين مأرب إذ *** يبنون من دون سَيْله العَرِما
وبين مأرب وصنعاء مسيرة ثلاث مراحل خفيفة .
ثم جاء بعد سبأ ابنُه حِمْير ويلقب العَرنْجح ( أي العتيق ) ، ويظهر أنه جعل بلاده ظفار بعد أن انتقل أبناء يشجب منها إلى صنعاء . وفي المثَل : من ظَفَّر حَمَّر ، أي من دخل ظفار فليتكلم بالحميرية ، ولهذا المثل قصة .
فكانت البلاد اليمنية أو القحطانية منقسمة إلى ثلاث قبائل : اليمنية ، والسبئية ، والحميرية . وكان على كل قبية مَلِك منها ، واستقلّت أفخاذهم بمواقع أطلقوا على الواحد منها اسم مخلاف ( بكسر الميم ) وكان لكل مخلاف رئيس يلقب بالقيل ويقال له : ذو كذا ، بالإضافة إلى اسم مخلافه ، مثل ذو رُعين . والملك الذي تتبعه الأقيال كلها ويحكم اليمن كلّها يلقب تُبَّع لأنه متبوع بأمراء كثيرين .
وقد انفردت سبأ بالملك في حدود القرن السابع عشر قبل الهجرة وكان أشهر ملوكهم أو أولَهم الهَدهاد بن شرحبيل ويلقب اليَشَرَّح ( بفتح التحتية وفتح الشين المعجمة وفتح الراء مشددة وبحاء مهملة في آخره ) . ثم وليت بعده بلقيس ابنة شرحبيل أيضاً أو شراحيل ولم تكن ذات زوج فيما يظهر من سياق القرآن . وقيل كانت متزوجة شَدد بن زرعة ، فإن صح ذلك فلعله لم تطل مدته فمات . وكان أهل سَبأ صابئة يعبدون الشمس . وبقية ذكر حضارتهم تأتي في تفسير سورة سَبأ .
و { أحطت } يقرأ بطاء مشددة لأنه التقاء طاء الكلمة وتاء المتكلم فقلبت هذه التاء طاء وأدغمتا .
والباء في قوله : { بنبإ } للمصاحبة لأن النبأ كان مصاحباً للهدهد حين مجيئه ، والنبأ : الخبر المهم .
وبين ب { سبأ } و { بنبإٍ } الجناس المزدوج . وفيه أيضاً جناس الخط وهو أن تكون صورة الكلمتين واحدة في الخَط وإنما تختلفان في النطق . ومنه قوله تعالى : { والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مَرضت فهو يَشفين } [ الشعراء : 79 ، 80 ] .
ووصفه ب { يقين } تحقيق لكون ما سيلقى إليه شيء محقق لا شبهة فيه فوصف بالمصدر للمبالغة .