جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا} (38)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : وأعتدنا للكافرين بالله من اليهود الذين وصف الله صفتهم عذابا مهينا . { وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النّاسِ } «والذين » في موضع خفض عطفا على «الكافرين » . وقوله : { رِئَاءَ النّاسِ } يعني : ينفقه مراءاة الناس في غير طاعة الله أو غير سبيله ، ولكن في سبيل الشيطان . { وَلا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ } يقول : ولا يصدّقون بواحدنية الله ولا بالميعاد إليه يوم القيامة ، الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن . وقد قال مجاهد : إن هذا من صفة اليهود ، وهو صفة أهل النفاق الذين كانوا أهل شرك فأظهروا الإسلام تقية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به ، وهم على كفرهم مقيمون أشبه منهم بصفة اليهود¹ لأن اليهود كانت توحد الله وتصدّق بالبعث والمعاد ، وإنما كان كفرها تكذيبها بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم . وبعد ففي فصل الله بين صفة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر ، وصفة الفريق الاَخر الذين وصفهم في الاَية قبلها ، وأخبر أن لهم عذابا مهينا ، بالواو الفاصلة بينهم ما ينبىء عن أنهما صفتان من نوعين من الناس مختلفي المعاني ، وإن كان جميعهم أهل كفر بالله . ولو كانت الصفتان كلتماهما صفة نوع من الناس لقيل إن شاء الله : وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ، الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس . ولكن فصل بينهم بالواو لما وصفنا .

فإن ظنّ ظانّ أن دخول الواو غير مستنكر في عطف صفة على صفة لموصوف واحد في كلام العرب ؟ قيل : ذلك وإن كان كذلك ، فإن الأفصح في كلام العرب إذا أريد ذلك ترك إدخال الواو ، وإذا أريد بالثاني وصف آخر غير الأوّل أدخل الواو . وتوجيه كلام الله إلى الأفصح الأشهر من كلام من نزل بلسانه كتابه أولى بنا من توجيهه إلى الأنكر من كلامهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَكُنِ الشّيْطانُ لَهُ قَرِينا فَساءَ قَرِينا } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن يكن الشيطان له خليلاً وصاحبا يعمل بطاعته ويتبع أمره ويترك أمر الله في إنفاقه ماله رئاء الناس في غير طاعته ، وجحوده وحدانية الله والبعث بعد الممات¹ { فساءَ قرِينا } يقول : فساء الشيطان قرينا . وإنما نصب القرين ، لأن في «ساء » ذكرا من الشيطان ، كما قال جلّ ثناؤه : { بِئْسَ للظّالِمِينَ بَدَلاً } ، وكذلك تفعل العرب في ساء ونظائرها ، ومنه قول عديّ بن زيد :

عَنِ المَرْءِ لا تَسألْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ***فَكُلّ قَرِينٍ بالمُقارِنِ يَقْتَدِي

يريد بالقرين : الصاحب والصديق .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا} (38)

{ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } عطف على الذين يبخلون ، أو الكافرين . وإنما شاركهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق لا على من ينبغي من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في القبح واستجلاب الذم ، أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله : { ومن يكن الشيطان له قرينا } . { ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } ليتحروا بالإنفاق مراضيه وثوابه وهم مشركو مكة . وقيل هم المنافقون . { ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا } تنبيه على أن الشيطان قرنهم فحملهم على ذلك وزينة لهم كقوله تعالى : { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } . والمراد إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة ، ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يقرن بهم الشيطان في النار .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا} (38)

وقوله تعالى : { والذين ينفقون } الآية - قال الطبري : { الذين } في موضع خفض عطف على الكافرين ، ويصح أن يكون في موضع رفع عطفاً على { الذين يبخلون } على تأويل : من رآه مقطوعاً ورأى الخبر محذوفاً ، وقال : إنها نزلت في اليهود ، ويصح أن يكون في موضع رفع على العطف وحذف الخبر ، وتقديره : بعد اليوم الآخر معذبون ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في اليهود ، قال الطبري : وهذا ضعيف ، لأنه نفى عن هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر ، واليهود ليسوا كذلك .

قال القاضي أبو محمد : وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام ، إذ إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان من حيث لا ينفعهم ، وقال الجمهور : نزلت في المنافقين ، وهذا هو الصحيح ، وإنفاقهم : هو ما كانوا يعطون من زكاة ، وينفقون في السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «رياء » ودفعاً عن أنفسهم ، لا إيماناً بالله ، ولا حباً في دينه { ورثاء } نصب على الحال من الضمير في { ينفقون } والعامل { ينفقون } ويكون قوله : { ولا يؤمنون } في الصلة ، لأن الحال لا تفرق إذا كانت مما هو في الصلة ، وحكى المهدوي : أن الحال تصح أن تكون من { الذين } فعلى هذا يكون { ولا يؤمنون } مقطوعاً ليس من الصلة ، والأول أصح ، وما حكى المهدوي ضعيف ، ويحتمل أن يكون { ولا يؤمنون } في موضع الحال ، أي : غير مؤمنين ، فتكون الواو واو الحال .

و «القرين » : فعيل بمعنى فاعل ، من المقارنة وهي الملازمة والاصطحاب{[4032]} ، وهي هاهنا مقارنة مع خلطة وتواد ، والإنسان كله يقارنه الشيطان ، لكن الموفق عاص له ، ومنه قيل لما يلزمان الإبل والبقر قرينان ، وقيل للحبل الذي يشدان به : قرن ، قال الشاعر : [ البسيط ]

كَمُدْخِلٍ رأَسَهُ لَمْ يُدْنِهِ أَحَدٌ *** بَيْنَ القَرِينَيْنِ حَتّى لزَّهُ الْقَرَنُ{[4033]}

فالمعنى : ومن يكن الشيطان له مصاحباً وملازماً ، أو شك أن يطيعه فتسوء عاقبته ، و { قريناً } نصب على التمييز ، والفاعل ل «ساء » مضمر ، تقديره ساء القرين قريناً ، على حد بئس ، وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى : { بئس للظالمين بدلاً }{[4034]} وذلك مردود ، لأن { بدلاً } حال ، وفي هذا نظر{[4035]} .


[4032]:- قال عدي بن زيد: عن المرء لا تسأل، وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي والقرين فعيل بمعنى المقارن، كالجليس والخليط، أي: المجالس، والمخالط. والجمع: قرناء.
[4033]:- الجمع بين دابتين في حبل هو: القرن. أما القرن (بالفتح) فهو الحبل الذي تلزان به، والشاعر يقصد بقوله: (القرينين) الحيوانين المقرونين، وكلمة (لزّ) معناها: جمع بينهما بشدة حتى ألصق أحدهما بالآخر، ومنه قول الشاعر: وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن لم يستطع صولة البذل القناعيس.
[4034]:- من الآية (50) من سورة (الكهف).
[4035]:- لأن [قرينا] لا يصح أن تعرب حالا مثل (بدلا)، إذ هذا يقتضي أن يكون [ساء] متعدية، ومفعولها محذوفا، وهذا معناه أنها فعل متصرف فلا تدخله الفاء، أو تدخله مصحوبة بقد، وقد دخلت الفاء بدون قد هنا.