ثم وبخهم - سبحانه - على قولهم إن لله ولداً وشريكاً فقال : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ . . . } .
أى : لم يتخذ الله - تعالى - ولداً - كما يزعم هؤلاء الجاهلون ، لأنه - سبحانه - منزه عن ذلك . ولم يكن معه من إله يشاركه فى ألوهيته وربوبيته - عز وجل -ز
ولو كان الأمر كما يزعمون { لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ } واستقل به عن غيره . { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أى : ولحدث بينهم التحارب والتغالب . . . ولفسد هذا الكون ، كما قال - تعالى - : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا . . . } { سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ } أى : تنزه الله - تعالى - وتقدس عما يصفه به هؤلاء الجاهلون . فهو - سبحانه - الواحد الأحد . الفرد الصمد ، الذى لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد .
أتبع الاستدلال على إثبات الوحدانية لله تعالى بالاستدلال على انتفاء الشركاء له في الإلهية . وقدمت النتيجة على القياس لتجعل هي المطلوب فإن النتيجة والمطلوب متحدان في المعنى مختلفان بالاعتبار ، فهي باعتبار حصولها عقب القياس تسمى نتيجة ، وباعتبار كونها دعوى مقام عليها الدليل وهو القياس تسمى مطلوباً كما في علم المنطق . ولتقديمها نكتة أن هذا المطلوب واضح النهوض لا يفتقر إلى دليل إلا لزيادة الاطمئنان فقوله : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } هو المطلوب وقوله { إذاً لذهب كل إله بما خلق } إلى آخر الآية هو الدليل . وتقديم هذا المطلوب على الدليل أغنى عن التصريح بالنتيجة عقب الدليل . وذكر نفي الولد استقصاء للرد على مختلف عقائد أهل الشرك من العرب فإن منهم من توهم أنه ارتقى عن عبادة الأصنام فعبدوا الملائكة وقالوا : هم بنات الله .
وإنما قدم نفي الولد على نفي الشريك مع أن أكثر المشركين عبدة أصنام لا عبدة الملائكة نظراً إلى أن شبهة عبدة الملائكة أقوى من شبهة عبدة الأصنام لأن الملائكة غير مشاهدين فليست دلائل الحدوث بادية عليهم كالأصنام ، ولأن الذين زعموهم بنات الله أقرب للتمويه من الذين زعموا الحجارة شركاء لله ، وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً عند قوله تعالى { قل من رب السماوات السبع } [ المؤمنون : 86 ] الآية .
و ( إذن ) حرف جواب وجزاء لكلام قبلها ملفوظ أو مقدر . والكلام المجاب هنا هو ما تضمنه قوله { وما كان معه من إله } فالجواب ضد ذلك النفي . وإذ قد كان هذا الضد أمراً مستحيل الوقوع تعين أن يقدر له شرط على وجه الفرض والتقدير ، والحرف المعد لمثل هذا الشرط هو ( لو ) الامتناعية ، فالتقدير : ولو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق .
وبقاء اللام في صدر الكلام الواقع بعد ( إذن ) دليل على أن المقدر شرط ( لو ) لأن اللام تلزم جواب ( لو ) ولأن غالب مواقع ( إذن ) أن تكون جواب ( لو ) فلذلك جاز حذف الشرط هنا لظهور تقديره .
وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : { إنكم إذن مثلهم } في سورة النساء ( 140 ) .
فقوله : { إذن لذهب كل إله بما خلق } استدلال على امتناع أن يكون مع الله آلهة .
وإنما لم يستدل على امتناع أن يتخذ الله ولداً لأن الاستدلال على ما بعده مغن عنه لأن ما بعده أعم منه وانتفاء الأعم يقتضي انتفاء الأخص فإنه لو كان لله ولد لكان الأولاد آلهة لأن ولد كل موجود إنما يتكون على مثل ماهية أصله كما دل عليه قوله تعالى : { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } [ الزخرف : 81 ] أي له .
والذهاب في قوله { لذهب كل إله } مستعار للاستقلال بالمذهوب به وعدم مشاركة غيره له فيه .
وبيان انتظام هذا الاستدلال أنه لو كان مع الله ءالهة لاقتضى ذلك أن يكون الآلهة سواء في صفات الإلهية وتلك الصفات كمالات تامة فكان كل إله خالقاً لمخلوقات لثبوت الموجودات الحادثة وهي مخلوقة ، فلا جائز أن تتوارد الآلهة على مخلوق واحد لأن ذلك : إما لعجز عن الانفراد بخلق بعض المخلوقات وهذا لا ينافي الإلهية ، وإما تحصيل للحاصل وهو محال ، فتعين أن ينفرد كل إله بطائفة من المخلوقات . ولنفرض أن تكون مخلوقات كل إله مساوية لمخلوقات غيره بناء على أن الحكمة تقتضي مقداراً معيناً من المخلوقات يعلمها الإله الخالق لها ؛ فتعين أن لا تكون للإله الذي لم يخلق طائفة من المخلوقات ربوبيةٌ على ما لم يخلقه وهذا يفضي إلى نقص في كل من الآلهة وهو يستلزم المحال لأن الإلهية تقتضي الكمال لا النقص . ولا جرم أن تلك المخلوقات ستكون بعد خلقها معرضة للزيادة والنقصان والقوة والضعف بحسب ما يحف بها عن عوارض الوجود التي لا تخلو عنها المخلوقات كما هو مشاهد في مخلوقات الله تعالى الواحد . ولا مناص عن ذلك لأن خالق المخلوقات أودع فيها خصائص ملازمة لها كما اقتضته حكمته ، فتلك المخلوقات مظاهر لخصائصها لا محالة فلا جرم أن ذلك يقتضي تفوق مخلوقات بعض الآلهة على مخلوقات بعض آخر بعوارض من التصرفات والمقارنات لازمة لذلك ، لا جرم يستلزم ذلك كله لازمين باطلين :
أولهما : أن يكون كل إله مختصاً بمخلوقاته فلا يتصرف فيها غيره من الآلهة ولا يتصرف هو في مخلوقات غيره ، فيقتضي ذلك أن كل إله من الآلهة عاجز عن التصرف في مخلوقات غيره . وهذا يستلزم المحال لأن العجز نقص والنقص ينافي حقيقة الإلهية . وهذا دليل برهاني على الوحدانية لأنه أدى إلى استحالة ضدها . فهذا معنى قوله تعالى : { لذهب كل إله بما خلق } .
وثاني : اللازمين أن تصير مخلوقات بعض الآلهة أوفر أو أقوى من مخلوقات إله آخر بعوارض تقتضي ذلك من آثار الأعمال النفسانية وآثار الأقطار والحوادث كما هو المشاهد في اختلاف أحوال مخلوقات الله تعالى الواحد ، فلا جرم أن ذلك يفضي إلى اعتزاز الإله الذي تفوقت مخلوقاته على الإله الذي تنحط مخلوقاته ، وهذا يقتضي أن يصير بعض تلك الآلهة أقوى من بعض وهو مناف للمساواة في الإلهية . وهذا معنى قوله تعالى : { ولعلا بعضهم على بعض } .
وهذا الثاني بناء على المعتاد من لوازم الإلهية في أنظار المفكرين ، وإلا فيجوز اتفاق الآلهة على أن لا يخلقوا مخلوقات قابلة للتفاوت بأن لا يخلقوا إلا حجارة أو حديداً مثلاً ؛ إلا أن هذا ينافي الواقع في المخلوقات .
ويجوز اتفاق الآلهة أيضاً على أن لا يعتز بعضهم على بعض بسبب تفاوت ملكوت كل على ملكوت الآخر بناء على ما اتصفوا به من الحكمة المتماثلة التي تعصمهم عن صدور ما يؤدي إلى اختلال المجد الإلهي ؛ إلا أن هذا المعنى لا يخلو من المصانعة وهي مشعرة بضعف المقدرة .
فبذلك كان الاستدلال الذي في هذه الآية برهانياً ، وهو مثل الاستدلال الذي في قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] إلا أن هذا بني على بعض لزوم النقص في ذات الآلهة وهو ما لا يجوزه المردود عليهم ، والآخر بني على لزوم اختلال أحوال المخلوقات السماوية والأرضية وهو ما تبطله المشاهدة .
أما الدليل البرهاني الخالص على استحالة تعدد الآلهة بالذات فله مقدمات أخرى قد وفّى أيمة علم الكلام بسطها بما لارواج بعده لعقيدة الشرك . وقد أشار إلى طريقة منها المحقق عمر القزويني في هذا الموضع من « حاشيته » على « الكشاف » ولكنه انفرد بادعاء أنه مأخوذ من الآية وليس كما ادعى . وقد ساقه الشهاب الآلوسي فإن شئت فتأمله .
ولما اقتضى هذا الدليل بطلان قولهم عقب الدليل بتنزيه الله تعالى عن أقوال المشركين بقوله تعالى : { سبحان الله عمايصفون } وهو بمنزلة نتيجة الدليل . وما يصفونه به هو ما اختصوا بوصفهم الله به من الشركاء في الإلهية ومن تعذر البعث عليه ونحو ذلك وهو الذي جرى فيه غرض الكلام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد} يعني: الملائكة {وما كان معه من إله} يعني: من شريك، فلو كان معه إله {إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} كفعل ملوك الدنيا يلتمس بعضهم قهر بعض، ثم نزه الرب نفسه، جل جلاله، عن مقالتهم فقال تعالى: {سبحان الله عما يصفون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ما اتّخَذَ اللّهُ منْ وَلَدٍ" يقول تعالى ذكره: ما لله من ولد، ولا كان معه في القديم ولا حين ابتدع الأشياء مَنْ تصلح عبادته، ولو كان معه في القديم أو عند خلقه الأشياء مَنْ تصلح عبادته مِنْ إلهٍ "إذا لَذَهَب "يقول: إذن لاعتزل كلّ إله منهم بِما خَلَقَ من شيء، فانفرد به، ولتغالبوا، فلَعَلا بعضهم على بعض، وغلب القويّ منهم الضعيف لأن القويّ لا يرضى أن يعلُوَه ضعيف، والضعيف لا يصلح أن يكون إلها. فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها لمن عقل وتدبر. وقوله: "إذا لَذَهَبَ" جواب لمحذوف، وهو: لو كان معه إله إذن لذهب كل إله بما خلق اجتزئ بدلالة ما ذكر عليه عنه.
وقوله: "سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ" يقول تعالى ذكره: تنزيها لله عما يصفه به هؤلاء المشركون من أن له ولدا، وعما قالوه من أن له شريكا، أو أن معه في القدم إلها يُعبد، تبارك وتعالى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {ولعلا بعضهم على بعض} أي قهر، وغلب بعضهم بعضا على ما يكون من عادة ملوك الأرض، فإذا كان ما قالوا ذهبت دلالة الألوهية والربوبية. فإذا لم يكن ذلك دل أنه واحد لا شريك معه، ولا ولد له؛ إذ اتساق التدبير وجري الأشياء على حد واحد وسنن واحد دل على ألوهية واحد لا لعدد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
اتخاذ الأولاد لا يصحُّ كاتخاذ الشريك، والأمران جميعاً داخلان في حدِّ الاستحالة، لأن الولد أو الشريك يوجب المساواة في القَدْرِ، والصمدية تتقدَّسُ عن جواز أن يكون له مِثْلٌ أو جنس.
{إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. كُلُّ أمرٍ نِيطَ باثنين فقد انتفى عنه النظامُ وصحةُ الترتيب، وأدلة التمانع مذكورة في مسائل الأصول. {سُبْحَانَ اللَّهِ} تقديساً له، وتنزيهاً عما وصفوه به. {عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} تَنَزَّهَ عن أوهامِ مَنْ أشرك، وظنونِ مَنْ أفِكَ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ} لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبدّ به، ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزاً من ملك الآخرين، ولغلب بعضهم بعضاً كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون، وحين لن تروا أثراً لتمايز الممالك وللتغالب، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء.
فإن قلت: إذاً لا تدخل إلاّ على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله لذهب جزاء وجواباً ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل؟ قلت: الشرط محذوف تقديره: ولو كان معه آلهة، وإنما حذف لدلالة قوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله} عليه. وهو جواب لمن معه المحاجة من المشركين {عَمَّا يَصِفُونَ} من الأنداد والأولاد.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
تأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البيّن، فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا، يوصل إلى عابديه النفع، ويدفع عنه الضر فلو كان معه سبحانه إله لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى شركة الإله الآخر معه، بل إن قدر على قهره والتفرد بالإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه، وذهب به، كما ينفرد ملوك الدنيا عن بعضهم بعضا بممالكهم، إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر، والعلو عليه. فلا بد من أحد أمور ثلاثة: إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه. وإما أن يعلو بعضهم على بعض. وإما أن يكون كلهم تحت قهر إله واحد، يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه، ويمتنع من حكمهم عليه ولا يمتنعون من حكمه، يكون وحده هو الإله الحق، وهم العبيد المربوبون المقهورون.
وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي وارتباط بعضه ببعض، وجريانه على نظام محكم لا يختلف ولا يفسد، من أدل دليل على أن مدبره واحد، لا إله غيره، كما دل دليل التمانع على أن خالقه واحد لا رب غيره. فذلك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في الغاية والألوهية. فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان كذلك يستحيل أن يكون له إلهان معبودان.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك، فقال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ...
} أي: لو قُدِّر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما يخلق، فما كان ينتظم الوجود. والمشاهد أن الوجود منتظم متسق، كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض، في غاية الكمال.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{سبحان الله} أي المتصف بجميع صفات الكمال، المنزه عن كل شائبة نقص {عما يصفون} من كل ما لا يليق بجنابه المقدس من الشريك والولد وغيره؛
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكل هذه الصور لا وجود لها في الكون، الذي تشهد وحدة تكوينه بوحدة خالقه، وتشهد وحدة ناموسه بوحدة مدبره. وكل جزء فيه وكل شيء يبدو متناسقا مع الأجزاء الأخرى بلا تصادم ولا تنازع ولا اضطراب..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وإنما قدم نفي الولد على نفي الشريك مع أن أكثر المشركين عبدة أصنام لا عبدة الملائكة نظراً إلى أن شبهة عبدة الملائكة أقوى من شبهة عبدة الأصنام؛ لأن الملائكة غير مشاهدين فليست دلائل الحدوث بادية عليهم كالأصنام، ولأن الذين زعموهم بنات الله أقرب للتمويه من الذين زعموا الحجارة شركاء لله،...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} وليس لهؤلاء الذين يعتقدون بمثل ذلك أيّ دليل، سوى ما قد يتخيلونه لبعض المخلوقات من الجن أو الملائكة أو الإنس، من قدراتٍ غير عادية لا تتناسب مع طبيعة المخلوق العادي، ما يؤدي بهم إلى الاعتقاد بأنَّ في شخصية هذه المخلوقات سرّاً من الألوهية، التي تتمتع بالقدرات الخارقة في علم الغيب، أو في التحرك غير الطبيعي الذي يقطع المسافات، ويطير في الفضاء، ويتحرك في السماء، أو في الأعمال المعجزة التي يقومون بها من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وما إلى ذلك من أمور لا تحصل إلا لمن يملك في ذاته بعضاً من الألوهية، ولن تكون الألوهية شيئاً يأتي من الخارج، بل لا بد من أن تتأتى عن الارتباط العضوي بالإله الواحد المهيمن، كالبنوّة التي توحي بوجود شيء منه داخل ولده، نظراً لطبيعة إرث الأبناء لخصائص الآباء. ولكن هذا التفكير لا يخلو من السذاجة، فإن البنوّة تمثل نوعاً من أنواع المحدودية والحاجة التي يستحيل وجودها في واجب الوجود، وهو الغني عن عباده في كل شيء، وليس هناك أيّ فراغٍ في ذاته لتسدّه مثل هذه الأمور. أمّا هذه القدرات الخارقة والأعمال المعجزة، فمن السهل أن يمنح الله عباده بعضها، تماماً كما يمنح بعض ظواهره الكونية الخصائص العظيمة، في ما يركّزه في داخلها من قوانين طبيعيّة، لأنه على كل شيء قدير، وليس من الضروري أن تكون هذه الأمور خاضعة لعناصر ذاتية بالمعنى الإلهي للمسألة، لأنه لا دليل على ذلك، ولا مقتضى له. دليل وحدانية الله تعالى {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِله} وليس لدى من يدّعون ذلك أية حجة وبرهان عليه سوى تخيّلاتهم المرضيّة المعقدة التي توحي لهم ببعض الأخيلة الفكرية التي تنسجها نقاط الضعف الشعورية الناتجة عن رواسب تاريخية وبدائية، أو عن بعض الأفكار المتخلّفة التي تضخّم ما لا يملك أيّة ضخامة فعلية، وتمنح بعض الأشخاص أو التماثيل صفات وهمية لا واقع لها. وليست المسألة مجرد نفي للدليل، بل هناك دليل عقليٌّ قاطع على وحدانية الله ونفي الشرك، توفره حسابات العقل من جهة، ومعطيات الواقع في النظام الكوني من جهةٍ أخرى. {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ}، لأن من خصائص التعدد وجود اختلاف في طبيعة الذات، يجعل لكل إله نظاماً يختلف عن الآخر، ما يوحي بأن ألوهية أحدهما وربوبيته تختلف عن صاحبه، فيستقلّ كل واحدٍ بمنطقةٍ من العالم يمارس فيها قدرته المطلقة ويخطط فيها النظام الذي يرتئيه، وبذلك تنفصل طبيعة النظام الذي يحكم الكون إلى أقسام، ويصبح لكل منطقة نظام مستقلّ لا يرتبط بالنظام الذي يحكم المنطقة الأخرى. فقد يكون للإنسان على هذا الأساس تدبير معين يختلف عمّا هو جارٍ في تدبير الحيوان والنبات، وهكذا عندما نواجه المخلوقات الأخرى والظواهر الطبيعيّة، ولكن هذا يوجب التفكيك في النظام الكوني، ومن ثم التدافع والتجاذب الذي قد يؤدي إلى الفساد، في الوقت الذي نشاهد فيه وحدة هذا النظام وتناسق أجزائه وتوافق جوانب التدبير فيه. {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} قد يكون سبب ذلك هو أن تعدد السلطات يستلزم التنافس عند محاولة سيطرة كل إله على الآخر وما تفرضه طبيعة الصراع، حيث يحاول كل منهما الاستعلاء على الآخر في ما يملكه من القدرة المطلقة، ولكن ذلك يعني اضطراب النظام الكونيّ وفساده، في الوقت الذي لا نجد فيه أيّ أثر لهذا الفساد في الواقع، وبذلك تكون مسألة الاعتقاد بتعدد الآلهة جارية على طبيعة الاعتقاد العام الذي ينظر إلى مسألة التعدد في الآلهة على طريقة التعدد في الناس، فلا تكون الملازمة خاضعة للمعادلات العقلية، بل تكون منسجمة مع الاستلزام العادي الناشىء من طبيعة الأشياء في حركة السطح، لا في حركة العمق..