ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن الغنى والفقر بيده ، وأن العطاء والمنع بأمره فقال - تعالى - : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ . }
وبسط الرزق كناية عن سعته ووفرته وكثرته . ومعنى : " يقدر " يضيق ويقلل .
قال الإمام الشوكانى : " لما ذكر - سبحانه - عاقبة المشركين بقوله { أولئك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار } كان لقائل أن يقول : قد نرى كثيرا منهم قد وفر الله له في الرزق وبسط له فيه . فأجاب - سبحانه - عن ذلك : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } فقد يبسط الرزق لمن كان كافرا ، ويقتره على من كان مؤمنا ابتلاء وامتحانا ، ولا يدل البسط على الكرامة ، ولا القبض على الإِهانة . . "
أى : الله - تعالى - وحده هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من خلقه ، وهو وحده - أيضا - الذي يضيقه على من يشاء منهم لحكم هو يعملها ، ولا تعلق لذلك بالكفر أو الإِيمان ، فقد يوسع على الكافر استدارجا له ، وقد يضيق على المؤمن امتحانا له ، أو زيادة في أجره .
والضمير في قوله { وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا } يعود إلى مشركى مكة ، وإلى كل من كان على شاكلتهم في الكفر والطغيان . والمراد بالفرح هنا : الأشر والبطر وجحود النعم .
أى : وفرح هؤلاء الكافرون بربهم ، الناقضون لعهودهم ، بما أوتوا من بسطة في الرزق في دنياهم ، فرح بطر وأشر ونسيان للآخرة لافرح سرور بنعم الله ، وشكر له - سبحانه - عليها ، وتذكر للآخرة وما فيها من ثواب وعقاب . .
وقوله - سبحانه - { وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ } بيان لقلة نعيم الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة .
والمتاع : ما يتمتع به الإنسان في دنياه من مال وغيره لمدة محددة ثم ينقضى .
أى : إن هؤلاء الفرحين بنعم الله عليهم في الدنيا ، فرح بطر وأشر وجحود ، لن يتمتعوا بها طويلا ، لأن نعيم الدنيا ليس إلا شيئا قليلا بالنسبة لنعيم الآخرة .
وتنكير { متاع } للتقليل ، كقوله - تعالى - في آية أخرى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } قال الآلوسى ما ملخصه : قوله { وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة } أى : كائنة في جنب نعيم الآخرة ، فالجار والمجور في موضع الحال ، و " في " هذه معناها المقايسة وهى كثيرة في الكلام ، كما يقال : ذنوب العبد في رحمة الله - تعالى - كقطرة في بحر ، وهى الداخلة بين مفضول سابق ، وفاضل لاحق . . .
والمراد بقوله { إِلاَّ مَتَاعٌ } أى : إلا شيئا يسيرا يتمتع به كزاد الراعى .
والمعنى : أنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة ، والحال أن ما فرحوا به في جنب ما أعرضوا عنه قليل النفع ، سريع النفاد .
أخرج الترمذى وصححه عن عبد الله بن مسعود قال : " نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير ، فقام وقد أثر في جنبه ، فقلنا يا رسول الله : لو اتخذنا لك ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : " مالى وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل بشجرة ثم راح وتركها . . . " " .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت صفات المؤمنين وحسن عاقبتهم ، وصفات الكافرين وسوء مصيرهم كما وضحت أن الأرزاق بيد الله - تعالى - يعطيها بسعة لمن يشاء من عباده ، ويعيطها بقلة لغيرهم . .
هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً عما يهجس في نفوس السامعين من المؤمنين والكافرين من سماع قوله : { أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } المفيد أنهم مغضوب عليهم ، فأما المؤمنون فيقولون : كيف بَسط الله الرزق لهم في الدنيا فازدادوا به طغياناً وكفراً وهلا عذبهم في الدنيا بالخصاصة كما قدر تعذيبهم في الآخرة ، وذلك مثل قول موسى عليه السلام { ربّنَا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك } [ سورة يونس : 88 ] ، وأما الكافرون فيسخرون من الوعيد مزدهين بما لهم من نعمة . فأجيب الفريقان بأن الله يشاء بسط الرزق لبعض عباده ونقصه لبعض آخر لحكمةٍ متصلة بأسباب العيش في الدنيا ، ولذلك اتّصال بحال الكرامة عنده في الآخرة . ولذلك جاء التعميم في قوله : { لمن يشاء } ، ومشيئته تعالى وأسبابها لا يطلع عليها أحد .
وأفاد تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : { الله يبسط } تقويةً للحكم وتأكيداً ، لأن المقصود أن يعلمه الناس ولفت العقول إليه على رأي السكاكي في أمثاله . وليس المقام مقام إفادة الحصر كما درج عليه « الكشاف » إذ ليس ثمة من يزعم الشركة لله في ذلك ، أو من يزعم أن الله لا يفعل ذلك فيقصد الرد عليه بطريق القصر .
والبسط : مستعار للكثرة وللدوام . والقَدْر : كناية عن القلة .
ولما كان المقصود الأول من هذا الكلام تعليم المسلمين كان الكلام موجهاً إليهم .
وجيء في جانب الكافرين بضمير الغيبة إشارة إلى أنهم أقل من أن يفهموا هذه الدقائق لعنجهية نفوسهم فهم فرحُوا بما لهم في الحياة الدنيا وغفلوا عن الآخرة ، فالفرح المذكور فرحُ بَطَر وطغيان كما في قوله تعالى في شأن قارون : { إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } [ سورة القصص : 76 ] ، فالمعنى فرحوا بالحياة الدنيا دون اهتمام بالآخرة . وهذا المعنى أفادهُ الاقتصار على ذكر الدنيا في حين ذكر الآخرة أيضاً بقوله : { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } .
والمراد بالحياة الدنيا وبالآخرة نعيمهما بقرينة السياق ، فالكلام من إضافة الحكم إلى الذات والمراد أحوالها .
و { في } ظرف مستقر حال من { الحياة الدنيا } . ومعنى { في } الظرفية المجازية بمعنى المقايسة ، أي إذا نُسبت أحوال الحياة الدنيا بأحوال الآخرة ظهر أن أحوال الدنيا متاعٌ قليل ، وتقدم عند قوله : { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } في سورة براءة ( 38 ) .
والمتاع : ما يتمتع به وينقضي . وتنكيره للتقليل كقوله : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ سورة آل عمران : 196 197 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.