ثم بين - سبحانه - أن علمه محيط بهؤلاء المنافقين ، وأنهم لن يفلتوا من عقابه ، فقال : { قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً } .
قال الآلوسى ما ملخصه : قال ابن السائب : الآية فى عبد الله بن أبى وأمثاله ممن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة . كانوا إذا جاءهم المنافق قالوا له : ويحك اجلس ولا تخرج ، ويكتبون إلى إخوانهم فى العسكر ، أن ائتونا فإنا ننتظركم .
وكان بعضهم يقول لبعض : ما محمد وأصحابه إلا أكْلَةُ راس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه ، فخلوهم .
و " قد " للتحقيق ، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شئ . و " المعوقين " من العَوْق وهو المنع والصرف ، يقال : عاق فلان فلانا ، إذا صرفه عن الجهة التى يريدها .
و " من " فى قوله { مِنكُمْ } للبيان . والمراد بالأخوة : التطابق والتشابه فى الصفات الذميمة ، والاتجهات القبيحة . التى على رأسها كراهيتهم للنبى صلى الله عليه وسلم ولأصحابه .
و " هلم " اسم فعل أمر بمعنى أقبل .
والمعنى : إن الله - تعالى - لا يخفى عليه حال أولئك المنافقين . الذين يخذلون ويثبطون ويصرفون إخوانهم فى النفاق والشقاق ، عن الاشتراك مع المؤمنين ، فى حرب جيوش الأحزاب ، ويقولون لهم : { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أى : أقبلوا نحونا ، وتعالوا إلى جوارنا ، ولا تنضموا إلى صفوف المسلمين .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً } ذم لهم على جبنهم وخورهم .
أى : أن من صفاتهم الأصيلة أنهم جبناء ، ولا يقبلون على الحرب والقتال ، إلا إقبالا قليلا . فهم تارة يخرجون مع المؤمنين ، لإِيهامهم أنهم معهم ، أو يخرجون معهم على سبيل الرياء والطمع فى غنيمة .
استئناف بياني ناشىء عن قوله { من ذا الذي يعصمكم من الله } [ الأحزاب : 17 ] لأن ذلك يثير سؤالاً يهجس في نفوسهم أنهم يُخفون مقاصدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يشعر بمرادهم من الاستئذان ، فأُمر أن يقول لهم { قد يعلم الله المعوِّقين منكم } أي : فالله ينبىء رسوله بكم بأن فِعْل أولئك تعويق للمؤمنين . وقد جعل هذا الاستئناف تخلصاً لذكر فريق آخر مِن المعوّقين .
و { قد } مفيد للتحقيق لأنهم لنفاقهم ومَرض قلوبهم يشكّون في لازم هذا الخبر وهو إنباء الله رسوله عليه الصلاة والسلام بهم ، أو لأنهم لجهلهم الناشىء عن الكفر يظنون أن الله لا يعلم خفايا القلوب . وذلك ليس بعجيب في عقائد أهل الكفر . ففي « صحيح البخاري » عن ابن مسعود : « اجتمع عند البيت قُرشيان وثقفيّ أو ثقفيان وقرشي كثيرةٌ شُحمُ بطونهم قليلةٌ فِقهُ قلوبهم ، فقال أحدهم : أتُرَوْنَ أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا . وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله تعالى : { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جُلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } [ فصلت : 22 ] فللتوكيد بحرف التحقيق موقع . ودخول { قد } على المضارع لا يخرجها عن معنى التحقيق عند المحققين من أهل العربية ، وأن ما توهموه من التقليل إنما دل عليه المقام في بعض المواضع لا من دلالة { قد ، } ومثله إفادة التكثير ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى { قد نرى تقلب وجهك في السماء } في سورة البقرة ( 144 ) ، وقوله تعالى : { قد يعلم ما أنتم عليه } في آخر سورة النور ( 64 ) .
والمعوِّق : اسم فاعل من عَوّق الدال على شدة حصول العَوْق . يقال : عاقه عن كذا ، إذا منعه وثبطه عن شيء ، فالتضعيف فيه للشدة والتكثير مثل : قطَّع الحبل ، إذا قطعه قطعاً كبيرة ، { وغلَّقَت الأبواب } [ يوسف : 23 ] ، أي : أحكمت غلقها . ويكون للتكثير في الفعل القاصر مثل : مَوَّت المال ، إذ كثر الموت في الإبل ، وطوَّف فلان ، إذا أكثر الطواف ، والمعنى : يعلم الله الذين يحرصون على تثبيط الناس عن القتال . والخطاب بقوله { منكم } للمنافقين الذين خوطبوا بقوله { لن ينفعكم الفرار } [ الأحزاب : 16 ] .
ويجوز أن يكون القائلون لإخوانهم { هلمّ إلينا هم المعوِّقين أنفسهم فيكون من عطف صفات الموصوف الواحد ، كقوله :
ويجوز أن يكونوا طائفة أخرى وإخوانهم هم الموافقون لهم في النفاق ، فالمراد : الأخوة في الرأي والدين . وذلك أن عبد الله بن أُبَيّ ، ومعتِّب بن قُشير ، ومن معهما من الذين انخذلوا عن جيش المسلمين يوم أُحُد فرجعوا إلى المدينة كانوا يرسلون إلى من بقي من المنافقين في جيش المسلمين يقولون لهم هلمّ إلينا } أي : ارجعوا إلينا . قال قتادة : هؤلاء ناس من المنافقين يقولون لهم : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رَأس أي نفر قليل يأكلون رأس بعير ولو كانوا لَحْماً لالتهمهم أبو سفيان ومن معه تمثيلاً بأنهم سهل تغلب أبي سفيان عليهم .
و { هلمّ } اسم فعلِ أمر بمعنى أقْبِل في لغة أهل الحجاز وهي الفصحى ، فلذلك تلزم هذه الكلمة حالة واحدة عندهم لا تتغير عنها ، يقولون : هلمّ ، للواحد والمتعدد المذكّر والمؤنّث ، وهي فعل عند بني تميم فلذلك يُلحقونها العلامات يقولون : هَلمّ وهلمّي وهَلُما وهَلمُّوا وهلْمُمْن . وتقدم في قوله تعالى { قل هلمّ شهداءكم } في سورة الأنعام ( 150 ) . والمعنى : انخذلوا عن جيش المسلمين وأقبلوا إلينا .
وجملة ولا يأتون البأس إلا قليلاً } كلام مستقل فيجوز أن تكون الجملة حالاً من القائلين لإخوانهم { هلمّ إلينا } ويجوز أن تكون عطفاً على المعوّقين والقائلين لأن الفعل يعطف على المشتق كقوله تعالى { فالمغيرات صُبحاً فأثَرْنَ } [ العاديات : 3 ، 4 ] وقوله : { إنّ المصَّدِّقين والمصَّدِّقات وأقرضوا الله } [ الحديد : 18 ] ، فالتقدير هنا : قد يعلم الله المعوّقين والقائلين وغيرَ الآتين البأس ، أو والذين لا يأتون البأس . وليس في تعدية فعل العلم إلى { لا يأتون } إشكال لأنه على تأويل كما أن عمل الناسخ في قوله { وأقرضوا } [ الحديد : 18 ] على تأويل ، أي : يعلم الله أنهم لا يأتون البأس إلا قليلاً ، أي : يعلم أنهم لا يقصدون بجمع إخوانهم معهم الاعتضادَ بهم في الحرب ولكن عزلهم عن القتال .
ومعنى { إلا قليلاً } إلا زماناً قليلاً ، وهو زمان حضورهم مع المسلمين المرابطين ، وهذا كقوله { فلا يؤمنون إلا قليلاً } [ النساء : 46 ] ، أي : إيماناً ظاهراً ، ومثل قوله تعالى : { أم بظاهر من القول } [ الرعد : 33 ] . و { قليلاً } صفة لمصدر محذوف ، أي : إتياناً قليلاً ، وقلّته تظهر في قلة زمانه وفي قلة غنائه .
و { البأس } : الحرب وتقدم في قوله تعالى { لِيُحصِنَكُم من بأسكم } في سورة الأنبياء ( 80 ) . وإتيان الحرب مراد به إتيان أهل الحرب أو موضعها . والمراد : البأس مع المسلمين ، أي : مكراً بالمسلمين لا جبْناً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.