التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٞ} (58)

ثم صور - سبحانه - حالتهم عندما يبشرون بولادة الأنثى ، وحكى عاداتهم الجاهلية المنكرة ، فقال - تعالى - : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ . . } .

قال الآلوسى : " قوله { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى . . } ، أي : أخبر بولادتها . وأصل البشارة الإِخبار بما يسر . لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوءهم ، حملت على مطلق الإِخبار . وجوز أن يكون ذلك بشارة ، باعتبار الولادة ، بقطع النظر عن كونها أنثى . . " .

وقوله : { كظيم } ، من الكظم ، بمعنى الحبس . يقال : كظم فلان غيظه ، إذا حبسه ، وهو ممتلئ به ، وفعله من باب ضر .

والمعنى : وإذا أخبر أحد هؤلاء الذين يجعلون لله البنات ، بولادة الأنثى دون الذكر ، صار وجهه مسودا كئيبا كأن عليه غبرة ، ترهقه قترة - أي تعلوه ظلمه وسواد - ، وصار جسده ممتلئا بالحزن المكتوم ، والغيظ المحبوس ، وأصبح يتوارى ، ويتخفى عن أعين الناس ، خجلا وحياء ، من أجل أن زوجته ولدت له أنثى ، ولم تلد له ذكرا .

وقوله - سبحانه - : { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب } ، تصوير بليغ لموقف ذلك المشرك مما بشر به ، وهو ولادة الأنثى .

فالضمير المنصوب في قوله : " أيمسكه ، ويدسه " ، يعود على المبشر به ، وهو الأنثى .

والهون : بمعنى الهوان والذل .

ويدسه : من الدس ، بمعنى : الإِخفاء للشيء في غيره . والمراد به . دفن الأنثى حية في التراب حتى تموت ، وهو المشار إليه في قوله - تعالى - : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } أي : أن هذا المشرك بعد أن يبشر بولادة الأنثى ، يدور بذهنه أحد أمرين : إما أن يمسكها ويبقيها على هوان وذل ، وإما أن يدسها ويخفيها في التراب ، بأن يدفنها فيه وهي حية ، حتى تموت .

والجار والمجرور في قوله : { على هون } ، يصح أن يكون حالا من الفاعل ، وهو المشرك : أي : أيمسك المبشر به مع رضاه - أي المشرك - بهوان نفسه وذلتها بسبب هذا الإِمساك .

ويصح أن يكون حالا من المفعول ، وهو الضمير المنصوب . أي أيمسك هذه الأنثى ويبقيها بقاء ذلة وهوان لها ، بحيث لا يورثها شيئا من ماله ، ولا يعاملها معاملة حسنة .

ومن بلاغة القرآن أنه عبر بقوله ؛ { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ } ، ليشمل حالة المشرك ، وحالة المبشر به وهو الأنثى .

وقوله - تعالى - : { أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ، ذم لهم على صنيعهم السيئ ، وعلى جهلهم الفاضح .

أي : بئس الحكم حكمهم ، وبئس الفعل فعلهم ، حيث نسبوا البنات إلى الله - تعالى - ، وظلموهن ظلما شنيعا ، حيث كرهوا وجودهن ، وأقدموا على قتلهن بدون ذنب أو ما يشبه الذنب .

وصدر - سبحانه - هذا الحكم العادل عليهم بحرف " ألا " الاستفتاحية : لتأكيد هذا الحكم ، ولتحقيق أن ما أقدموا عليه ، إنما هو جور عظيم ، قد تمالئوا عليه ، بسبب جهلهم الفاضح ، وتفكيرهم السيئ .

أسند - سبحانه - الحكم إلى جميعهم ، مع أن من فعل ذلك كان بعضا منهم ، لأن ترك هذا البعض يفعل ذلك الفعل القبيح ، هذا الترك هو في ذاته جريمة ، يستحق عليها جميع العقوبة ، لأن سكوتهم على هذا الفعل مع قدرتهم على منعه ، يعتبر رضا به .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٞ} (58)

وقوله : { وإذا بشر } ، لما صرح بالشيء المبشر به ، حسن ذكر البشارة فيه ، وإلا فالبشارة مطلقة لا تكون إلا في خير ، وقوله : { ظل وجهه مسوداً } ، عبارة عن العبوس والتقطيب الذي يلحق المغموم ، وقد يعلو وجه المغموم سواد وربدة ، وتذهب شراقته ، فلذلك يذكر له السواد ، و { كظيم } بمعنى كاظم ، كعليم وعالم ، والمعنى : أنه يخفي وجده وهمه بالأنثى .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٞ} (58)

الواو في قوله تعالى : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى } يجوز أن تكون واو الحال .

ويجوز أن تكون الجملة معترضة والواو اعتراضية اقتضى الإطالة بها أنها من تفاريع شركهم ، فهي لذلك جديرة بأن تكون مقصودة بالذكر كأخواتها . وهذا أولى من أن تجعل معطوفة على جملة { ولهم ما يشتهون } [ سورة النحل : 57 ] التي هي في موضع الحال ، لأن ذلك يفيت قصدها بالعدّ . وهذا القصد من مقتضيات المقام وإن كان مآل الاعتبارين واحداً في حاصل المعنى .

والتّعبير عن الإعلام بازدياد الأنثى بفعل { بشر } في موضعين لأنه كذلك في نفس الأمر إذ ازدياد المولود نعمة على الوالد لما يترقّبه من التأنّس به ومزاحِه والانتفاع بخدمته وإعانته عند الاحتياج إليه ، ولما فيه من تكثير نسل القبيلة الموجب عزّتها ، وآصرة الصهر . ثم إن هذا مع كونه بشارة في نفس الأمر فالتّعبير به يفيد تعريضاً بالتهكّم بهم إذ يعُدون البشارة مُصيبة وذلك من تحريفهم الحقائق . والتّعريض من أقسام الكناية والكناية تجامع الحقيقة .

والباء في { بالأنثى } لتعدية فعل البشارة وعلّقت بذات الأنثى . والمراد ؛ بولادتها ، فهو على حذف مضاف معلوم .

وفعل { ظل } من أفعال الكون أخوات كان التي تدلّ على اتّصاف فاعلها بحالة لازمة فلذلك تقتضي فاعلاً مرفوعاً يدعى اسماً وحالاً لازماً له منصوباً يدعى خبراً لأنه شبيه بخبر المبتدإ . وسمّاها النّحاة لذلك نواسخ لأنها تعمل فيما لولاها لكان مبتدأً وخبراً فلما تغيّر معها حكم الخبر سمّيت ناسخة لرفعه ، كما سميت ( إنّ ) وأخواتها و ( ظنّ ) وأخواتها كذلك . وهو اصطلاح تقريبي وليس برشيق .

ويستعمل { ظَلّ } بمعنى صار . وهو المراد هنا .

واسوداد الوجه : مستعمل في لون وجه الكئيب إذ ترهقه غبرة ، فشبّهت بالسّواد مبالغة .

والكظيم : الغضبان المملوء حنقاً . وتقدم في قوله تعالى : { فهو كظيم } في سورة يوسف ( 84 ) ، أي أصبح حنقاً على امرأته . وهذا من جاهليتهم الجهلاء وظلمهم ، إذ يعاملون المرأة معاملة من لو كانت ولادة الذكور باختيارها ، ولماذا لا يحنق على نفسه إذ يلقح امرأته بأنثى ، قالت إحدى نسائهم أنشده الأصمعي تذكر بعلها وقد هجرها لأنها تلد البنات :

يَغْضَبُ إنْ لم نلد البنينا *** وإنما نُعطي الذي أعطينا