ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من النعم ، منها ما يتعلق بنعمة المسكن فقال - تعالى - : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً . . . } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { جعل لكم } ، معناه : صير ، وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء ، وكل ما أقلك فهو أرض ، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار ، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت ، وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت ، وقوله : { سكنا } ، أي : تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة . . . .
والحق أن نعمة السكن في البيوت والاستقرار فيها ، والشعور بداخلها بالأمان والاطمئنان ، هذه النعمة لا يقدرها حق قدرها ، إلا أولئك الذين فقدوها ، وصاروا يعيشون بلا مأوى يأويهم ، أو منزل يجمع شتاتهم .
والتعبير بقوله عز وجل : { سكنا } ، فيه ما فيه من السمو بمكانة البيوت التي يسكنها الناس . فالبيت مكان السكينة النفسية ، والراحة الجسدية ، هكذا يريده الإِسلام ، ولا يريده مكانا للشقاق والخصام ؛ لأن الشقاق والخصام ينافي كونه : { سكنا } .
والبيت له حرمته التي جعل الإسلام من مظاهرها : عدم اقتحامه بدون استئذان ، وعدم التطلع إلى ما بداخله ، وعدم التجسس على من بداخله .
وصيانة حرمة البيت - كما أمر الاسلام - تجعله : { سكنا } آمنا ، يجد فيه أصحابه كل مايريدون من الراحة النفسية والشعورية .
وقوله - تعالى - : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } ، بيان لنعمة أخرى تتمثل في البيوت الخفيفة المتنقلة ، بعد الحديث عن البيوت الثابتة المستقرة .
والأنعام : جمع نعم . وتشمل الإِبل والبقر والغنم ، ويدخل في الغنم المعز .
والظعن بسكون العين وفتحها : التحول والانتقال والرحيل من مكان إلى آخر طلبا للكلأ ، أو لمساقط الغيث ، أو لغير ذلك من الأغراض . أي : ومن نعمه أيضا أنه أوجد لكم من جلود الأنعام بيوتا { تستخفونها } ، أي : تجدونها خفيفة ، { يوم ظعنكم } ، أي : : يوم سفركم ورحيلكم من موضع إلى آخر ، { ويوم إقامتكم } ، في مكان معين بحيث يمكنكم أن تنصبوها لترتاحوا بداخلها ، بأيسر السبل ، وذلك كالقباب والخيام والأخبية ، وغير ذلك من البيوت التي يخف حملها .
ثم ختم - سبحانه - الآية بإبراز نعمة ثالثة ، تتمثل فيما يأخذونه من الأنعام ، فقال - تعالى - : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ } .
والأثاث : متاع البيت الكثير ، وأصله من أث الشيء - بفتح الهمزة وتشديد الثاء مع الفتح - إذا كثر وتكاتف ، ومنه قول الشاعر .
وفرع يزين المتن أسودَ فاحمٍ . . . أثيثٍ كقنو النخلة المتعثكل
ويشمل جميع أصناف المال كالفرش وغيرها .
والمتاع : ما يتمتع به من حوائح البيت الخاصة كأدوات الطعام والشراب ، فيكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام . وقيل : هما بمعنى واحد . والعطف لتنزيل تغاير اللفظ بمنزله تغاير المعنى ، أي : ومن أصواف الغنم ، وأوبار الإِبل ، وأشعار المعز ، تتخذون لأنفسكم { أثاثا } كثيرا تستعملونه في مصالحكم المتنوعة ، كما تتخذون من ذلك ما تتمتعون به في بيوتكم وفي معاشكم { إلى حين } ، أي : إلى وقت معين قدره الله - تعالى - لكم في تمتعكم بهذه الأصواف والأوبار والأشعار .
هذه آية تعديد نعمة الله على الناس في البيوت ، فذكر أولاً بيوت التمدن : وهي التي للإقامة الطويلة ، وهي أعظم بيوت الإنسان ، وإن كان الوصف ب { سكناً } يعم جميع البيوت ، والسكن مصدر يوصف به الواحد ، ومعناه : يسكن فيها وإليها . ثم ذكر تعالى بيوت النقلة والرحلة ، وقوله : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } ، يحتمل أن يعم به بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف ؛ لأن هذه هي من الجلود ، لكونها نابتة فيها ، نحا إلى ذلك ابن سلام ، ويكون قوله : { ومن أصوافها } ، عطفاً على قوله : { من جلود الأنعام } ، أي : جعل بيوتاً أيضاً ، ويكون قوله : { أثاثاً } ، نصباً على الحال ، و { تستخفونها } ، أي : تجدونها خفافاً . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «ظعَنكم » ، بفتح العين ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي : «ظعْنكم » ، بسكون العين ، وهما لغتان ، وليس بتخفيف ، و «ظعن » ، معناه : رحل . والأصواف للغنم ، والأوبار للإبل ، والأشعار للمعز والبقر ، ولم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان ؛ فلذلك اقتصر على هذه ، ويحتمل أن ترك ذلك القطن والحرير والكتان إعراضاً ، والكتان في لفظ السرابيل ، والأثاث : متاع البيت ، واحدتها أثاثة ، هذا قول أبي زيد الأنصاري ، وقال غيره : الأثاث : جميع أنواع المال ، ولا واحد له من لفظه .
قال القاضي أبو محمد : والاشتقاق يقوي هذا المعنى الأعم ؛ لأن حال الإنسان تكون بالمال أثيثة ، تقول : شعر أثيث ، ونبات أثيث : إذا كثر والتف ، وقوله : { إلى حين } ، يريد به وقتاً غير معين ، وهو بحسب كل إنسان ، إما بموته ، وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر : [ الوافر ]
أهاجتك الظعائن يوم بانوا . . . بذي الزيّ الجميل من الأثاث{[7390]}
هذا من تعداد النّعم التي ألهم الله إليها الإنسان ، وهي نعمة الفكر بصنع المنازل الواقية والمرفّهة وما يشبهها من الثياب والأثاث عطفاً على جملة { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } [ سورة النحل : 78 ] . وكلّها من الألطاف التي أعدّ الله لها عقل الإنسان وهيّأ له وسائلها .
وهذه نعمة الإلهام إلى اتّخاذ المساكن وذلك أصل حفظ النوع من غوائل حوادث الجوّ من شدّة برد أو حرّ ومن غوائل السباع والهوامّ . وهي أيضاً أصل الحضارة والتمدّن لأن البلدان ومنازل القبائل تتقوّم من اجتماع البيوت . وأيضاً تتقوّم من مجتمع الحِلل والخيام .
والقول في نظم جملة { والله جعل لكم } كالقول في التي قبلها .
وبيوت : يجوز فيه ضمّ الموحدة وكسرها ، وهو جمع بيت . وضمّ الموحّدة هو القياس لأنه على وزن فُعول ، وهو مطرد في جمع فَعْل بفتح الفاء وسكون العين . وأما لغة كسر الباء فلمناسبة وقوع الياء التحتية بعد الموحّدة المضمومة ، لأن الانتقال من حركة الضمّ إلى النّطق بالياء ثقيل . وقال الزجاج : أكثر النحويين لا يعرفون الكسر ( أي لا يعرفونه لغة ) وبيّن أبو عليّ جوازه . وتقدم في سورة البقرة .
وبالكسر قرأ الجمهور . وقرأها بالضمّ أبو عمرو وورش عن نافع وحَفص عن عاصم .
والبيت : مكان يجعل له بناء وفسطاط يحيط به يعين مكانه ليتّخذه جاعلُه مقَراً يأوي إليه ويستكنّ به من الحرّ والقُرّ . وقد يكون محيطُه من حجر وطين ويسمّى جداراً ، أو من أخشاب أو قصب أو غير ذلك وتُسمّى أيضاً الأخصاص . ويوضع فوق محيطه غطاء ساتر من أعلاه يسمّى السقْف ، يتّخذ من أعواد ويُطيّن عليها ، وهذه بيوت أهل المدن والقرى .
وقد يكون المحيط بالبيت متّخذاً من أديم مدبوغ ويسمى القبّة ، أو من أثواب تُنْسج من وَبر أو شَعَر أو صُوف ويسمّى الخَيمة أو الخباءَ ، وكلّها يكون بشكل قريب من الهرميّ تلتقي شُقّتاه أو شُققه من أعلاه معتمدةً على عمود وتنحدر منه متّسعَة على شكل مخروط . وهذه بيوت الأعراب في البوادي أهل الإبل والغنم يتّخذونها لأنها أسعد لهم في انتجاعهم ، فينقلونها معهم إذا انتقلوا يتتبّعون مواقع الكَلأ لأنعامهم والكَمْأة لعَيشهم . وقد تقدّم ذكر البيت عند قوله تعالى : { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } في سورة البقرة ( 125 ) .
و { جَعَلَ } هنا بمعنى أوجد ، فتتعدّى إلى مفعول واحد .
والسَكَن : اسم بمعنى المسكون . والسكنى : مصدر سكن فلان البيتَ ، إذا جعله مقرّاً له ، وهو مشتقّ من السكون ، أي القرار .
وانتصب قوله تعالى : { سكناً } على المفعولية ل { جعل } .
وقوله : { من بيوتكم } بيان للسكن ، فتكون { من } بيانية ، أو تجعل ابتدائية ويكون الكلام من قبيل التجريد بتنزيل البيوت منزلة شيء آخر غير السكن ، كقولهم : لئن لقيت فلاناً لتلقينّ منه بحراً .
وأصل التركيب : والله جعل لكم بيوتكم سكنا .
وقيل : إن { سكناً } مصدر وهو قول ضعيف ، وعليه فيكون الامتنان بالإلهام الذي دلّ عليه السكون ، وتكون { من } ابتدائية ، لأن أول السكون يقع في البيوت .
وشمل البيوت هنا جميع أصنافها .
وخُصّ بالذّكر القباب والخيام في قوله تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } لأن القباب من أدم ، والخيام من منسوج الأوبار والأصواف والأشعار ، وهي ناشئة من الجلد ، لأن الجلد هو الإهاب بما عليه ، فإذا دبغ وأزيل منه الشّعر فهو الأديم .
وهذا امتنان خاص بالبيوت القابلة للانتقال والارتحال ، والبشر كلّهم لا يعدون أن يكونوا أهل قرى أو قبائل رحلاً .
والسين والتاء في { تستخفونها } للوجدان ، أي تجدونها خفيفة ، أي خفيفة المحمل حين ترحلون ، إذ يسهل نقضها من مواضعها وطيّها وحملها على الرواحل ، وحين تنيخون إناخة الإقامة في الموضع المنتقل إليه فيسهل ضربها وتوثيقها في الأرض .
والظعن بفتح الظاء والعين وتسكن العينُ ، وقد قرأه بالأول نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب ، وبالثاني الباقون ، وهو السّفر .
وأطلق اليوم على الحين والزمن ، أي وقت سفركم .
والأثاث بفتح الهمزة اسم جمع للأشياء التي تفرش في البيوت من وسائد وبُسط وزرابيّ ، وكلها تنسج أو تحْشى بالأصواف والأشعار والأوبار .
والمتاع أعمّ من الأثاث ، فيشمل الأعدال والخُطُم والرحائل واللّبود والعُقُل .
فالمتاع : ما يتمتّع به وينتفع ، وهو مشتقّ من المتع ، وهو الذهاب بالشيء ، ولِملاحظة اشتقاقه تعلّق به إلى حين . والمقصود من هذا المتعلّق الوعظ بأنها أو أنهم صائرون إلى زوال يحول دون الانتفاع بها ليكون الناس على أهبة واستعداد للآخرة فيتّبعوا ما يرضي الله تعالى . كما قال : { أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } [ سورة الأحقاف : 20 ] .