الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُيُوتِكُمۡ سَكَنٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ بُيُوتٗا تَسۡتَخِفُّونَهَا يَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَيَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا وَأَوۡبَارِهَا وَأَشۡعَارِهَآ أَثَٰثٗا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِينٖ} (80)

قوله تعالى : { سَكَناً } : يجوز أن يكونَ مفعولاً أولَ ، على أنَّ الجَعْلَ تصييرٌ ، والمفعولُ الثاني : أحدُ الجارَّيْنِ قبله . ويجوز أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى الخَلْقِ ، فيتعدَّى لواحدٍ . وإنما وَحَّد السَّكن ؛ لأنه بمعنى ما تَسْكُنُون فيه ، قاله أبو البقاء : وقد يُقال : إنه في الأصل مصدرٌ ، وإليه ذهب ابن عطية ، فتوحيدُه واضحٌ . إلا أنَّ الشيخ منع كونَه مصدراً ، ولم يذكر وَجْهَ المنعِ ، وكأنه اعتمد على قولِ أهل اللغة : أن " السَّكَن " فَعَل ، بمعنى : مَفْعُول ، كالقَبْضِ والنَّقَض ، بمعنى ، المقبوض والمنقوض ، وأنشد الفراء :

جاء الشتاءُ ولَمَّا أتخِذْ سَكَناً *** يا ويحَ نفسي مِنْ حَفْرِ القراميصِ

قوله : { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } ، قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو : بفتح العين ، والباقون : بإسكانها ، وهما لغتان بمعنىً ، كالنَّهْر والنَّهَر . وزعم بعضُهم أن الأصلَ الفتحُ ، والسكونُ تخفيفٌ لأجلِ حرفِ الحلق كالشَّعْر في الشعَر .

قوله : { أَثَاثاً } ، فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوبٌ عطفاً على " بُيوتاً " ، أي : وَجَعَلَ لكم من أصوافِها أثاثاً ، وعلى هذا فيكونُ قد عطف مجروراً على مجرور ، ومنصوباً على منصوبٍ ، ولا فَصْلَ هنا بين حرفِ العطفِ والمعطوف حينئذٍ . وقال أبو البقاء : " وقد فُصِلَ بينه وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ والمجرور ، وهو قولُه : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا } ، وهو ليس بفصلٍ مستقبَحٍ كما زعم في " الإِيضاح " ؛ لأنَّ الجارَّ والمجرورَ مفعول ، وتقديمُ فعولٍ على مفعولٍ قياسٌ " . وفيه نظرٌ ؛ لِما عَرَفْتَ من أنه عَطْفُ مجرورٍ على مثلِه ، ومنصوبٍ على مثله .

والثاني : أنه منصوبٌ على الحالِ ، ويكون قد عَطَفَ مجروراً على مثلِه ، تقديرُه : وجَعَل لكم مِنْ جلودِ الأنعام ، ومِنْ أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها ، بيوتاً حالَ كونِها أثاثاً ، فَفَصَل بالمفعول بين المتعاطفين . وليس المعنى على هذا ، إنما هو على الأول .

وقوله : { كَلَمْحِ الْبَصَرِ } [ النحل : 77 ] ، اللَّمْحُ : مصدرُ لَمَحَ يَلْمَح لَمْحاً ولَمَحاناً ، أي : أَبْصَرَ بسرعة . وقيل : أصلُه من لَمْحِ البرق ، وقولهم : " لأُرِيَنَّك لَمْحاً باصراً " ، أي : أمراً واضحاً .

وقوله : { فِي جَوِّ السَّمَآءِ } [ النحل : 79 ] ، الجَوُّ : الهواء ، وهو ما بين السماءِ والأرض . قال :

فلستَ لإِنْسيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ *** تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السماء يَصُوبُ

وقيل : الجَوُّ : ما يلي الأرضَ في سَمْتِ العُلُوِّ ، واللُّوح والسُّكاك أبعدُ منه .

وقوله : " ظَعْنِكم " ، مصدرُ ظَعَن ، أي : ارْتَحَلَ ، والظَّعِينَةُ : الهَوْدَجُ فيه المرأةُ ، وإلا فهو مَحْمَلٌ ، ثم كَثُر حتى قيل للمرأة ، ظَعينة .

وقال أهل اللغة : الأصوافُ للضَّأْن ، والأَوْبار للإِبِل ، والشَّعْر للمَعِز . والأَثاث : مَتاعُ البيت إذا كان كثيراً . وأصلُه مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ إذا كَثُفا وتكاثرا . قال امرؤ القيس :

وفَرْعٍ يُغشي المَتْنَ أسودَ فاحمٍ *** أثيثٍِ كقِنْوِ النخلةِ المُتَعَثْكِلِ

ونساء أَثائِثُ ، أي : كثيراتُ اللحمِ ، كأنَّ عليهن أَثاثاً ، وتَأَثَّث فلانٌ : كَثُر أثاثُه . وقال الزمخشري : " الأثاث ما جَدَّ مِنْ فَرْشِ البيت ، والخُرْثِيُّ : ما قَدُم منها " ، وأنشد :

تقادَم العهدُ مِنْ أُمِّ الوليد بنا *** دَهْراً وصار أثاثُ البيتِ خُرْثِيَّا

وهل له واحدٌ من لفظه ؟ فقال الفراء : لا . وقال أبو زيد : " واحدة : أَثاثَةٌ ، وجمعُه في القلَّة " أثِثَّة ، كبَتات وأَبِتَّة " . قال الشيخ : " وفي الكثير على " أَثَثٍ " . وفيه نظر ؛ لأنَّ فَعالاً المُضَعَّف يلزمُ جَمْعُه على أَفْعِلَة في القلة والكثرة ، ولا يُجْمع على فُعُل إلا في لفظتين شَذَّتا ، وهما : عُنُن وحُجُج ، جمع عِنان وحِجاج ، وقد نصَّ النحاة على مَنْع القياس عليهما ، فلا يجوز : زِمام وزُمُم بل أَزِمَّة . وقال الخليل : " الأَثَاثُ والمَتاع واحدٌ ، وجُمِع بينهما لاختلافِ لَفْظَيْهما كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا

[ وقوله ] :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ