قوله - تعالى- : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } ، الآية ، وهذا نوعٌ آخر من دلائل التوحيد .
قوله : " سَكَناً " ، يجوز أن يكون مفعولاً أولاً ، على أنَّ الجعل تصيير ، والمفعول الثاني أحد الجارين قبله ، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلقِ ، فيتعدَّى لواحدٍ ، وإنَّما وحد السكن ؛ لأنه بمعنى ما يسكنون فيه ، قاله أبو البقاء .
وقد يقال : إنه في الأصل مصدر ، وإليه ذهب ابن عطية ، فتوحيده واضح ، إلا أن أبا حيَّان منع كونه مصدراً ولم يذكر وجه المنع ، وكأنه اعتمد على قول أهل اللغة : إن السكن " فَعْل " ، بمعنى : " مَفْعُول " : كالقَبْضِ والنقْضِ ، بمعنى : المَنْقُوض والمَقْبُوض ؛ وأنشد الفراء فقال : [ البسيط ]
جَاءَ الشِّتاءُ ولمَّا أتَّخِذْ سَكَناً *** يَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ حَفْرِ القَرامِيصِ{[20003]}
والسَّكنُ : ما سكنتَ إليه وما سَكنْتَ فيه ، قال الزمخشري : " السَّكن : ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلفٍ " .
واعلم أنَّ البيوت الَّتي يسكن فيها الإنسان على قسمين :
أحدهما : البيوت المتَّخذة من الحجر والمدر ، وهي المرادة من قوله : { جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } ، وهذا القسم لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه .
والثاني : البيوت المتَّخذة من القباب والخيام والفساطيط ، وهي المرادة بقوله : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا } ، وهذا القسم يمكن نقله مع الإنسان .
قوله : { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } ، قرأ نافع ، وابن{[20004]} كثير ، وأبو عمرو : بفتح العين ، والباقون : بإسكانها ، وهما لغتان ، كالنَّهْر والنَّهَر .
وزعم بعضهم أن الأصل الفتح ، والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق ؛ كالشَّعْر والشعَر " .
والظَّعنُ مصدر ظعن ، أي : ارتحل ، والظَّعينةُ : الهودج فيه المرأة ، وإلا فهو محمل ، ثم كثر حتى قيل للمرأة : ظعينة .
والمعنى : جعل لكم من جلودِ الأنعام بيوتاً ، يعني : الخِيَام ، والقِبَاب والأخبية ، والفَساطِيط من الأنطاع والأدم ، " تَسْتَخِفُّونَها " ، أي : يخف عليكم حملها ، { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } : رحلتكم في سفركم ، والظَّعْنُ : سير [ البادية ]{[20005]} ؛ لنجعة ، أو لحضور ماء ، أو طلب مرتع ، والظَّعْنُ أيضاً : الهَوْدَج ؛ قال : [ الهزج ]
ألاَ هَلْ هَاجكَ الأظْعَانُ إذ بَانُوا *** وإذْ جَادتْ بِوشْكِ البَيْنِ غِرْبَانُ{[20006]}
{ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } ، في بلدكم لا يثقل عليكم في الحالتين ، و " مِنْ " ، راجعة إلى الحالتين . { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ } ، يعني : أصواف الضَّأن ، وأوبار الإبل ، وأشعار المعز ، والكنايات راجعة إلى الأنعام ، وذكر الأصواف والأوبار ولم يذكر القطن والكتان ؛ لأنهما لم يكونا ببلاد العرب .
قوله : " أثَاثاً " فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب عطفاً على " بُيُوتًا " ، أي : وجعل لكم من أصوافها أثاثاً ، وعلى هذا يكون قد عطف مجروراً على مجرورٍ ، ومنصوباً على منصوب ، ولا فصل هنا بين حرف العطف والمعطوف حينئذ .
وقال أبو البقاء{[20007]} - رحمه الله- : " وقد فصل بينه وبين حرف العطف بالجار والمجرور ، وهو قوله عز وجل : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا } ، وهو ليس بفصل مستقبح كما زعم في الإيضاح ؛ لأنَّ الجارَّ والمجرور مفعول ، و تقديم مفعول على مفعول قياس " . وفيه نظر ؛ لأنه عطف مجروراً على مثله ، ومنصوباً على مثله .
والثاني : أنه منصوب على الحال ، ويكون قد عطف مجروراً على مثله تقديره : وجعل لكم من جلود الأنعام ، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً حال كونها أثاثاً ، ففصل بالمفعول بين المتعاطفين ، وليس المعنى على هذا ، إنما هو على الأول .
والأثاث : متاع البيت إذا كان كثيراً ، وأصله : مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ ؛ إذا كثفا وتكاثرا ؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسْودَ فَاحمٍ *** أثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخلَةِ المُتعَثْكِلِ{[20008]}
ونساءٌ أثائِثُ ، أي : كثيرات اللحم ، كأنّ عليهن أثاثاً ، وفلان كثر أثاثهُ . وقال الزمخشري : الأثاث : ما جدَّ من فرش البيت ، والخُرثيُّ : ما قدم منها ؛ وأنشد : [ البسيط ]
تَقادمَ العَهْدُ من أمِّ الوليدِ بِنَا *** دَهْراً وصَارَ أثَاثُ البيتِ خُرثِيَّا{[20009]}
وهل له واحدٌ من لفظه ؟ فقال الفراء : لا ، وقال أبو زيد : واحده أثاثة ، وجمعه في القلَّة : أثثة ؛ ك " بَتَات " و " أبتَّة " ، وقال أبو حيَّان : وفي الكثير على أثث ، وفيه نظر ؛ لأن " فعالاً " ، المضعَّف ، يلزم جمعه على أفعلة في القلَّة والكثرة ، ولا يجمع على " فُعُل " إلا في لفظتين شذَّتا ، وهما : عُيُن وحُجُج ، جمع عيَّان وحجَّاج ، وقد نص النحاة على منع القياس عليهما ، فلا يجوز : زمام وزُمُم ، بل أزمَّة ، وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد ، وجمع بينهما لاختلاف لفظهما ؛ كقوله : [ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وألْفَى قَوْلهَا كَذِباً ومَيْنَا{[20010]}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وهِنْدٌ أتَى من دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ{[20011]}
وقيل : متاعاً : بلاغاً ينتفعون به ، " إلى حين " يعني : الموت ، وقيل : إلى حين البِلَى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.