التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ} (5)

وقوله - تعالى - : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } معطفو على ما قبله وداخل فى حيز القسم . وضمير الغائب يعود إلى الإِنسان .

وحقيقة الرد : إرجاع الشيء إلى مكانه السابق ، والمراد به هنا : تصيير الإِنسان على حالة غير الحالة التى كان عليها ، وأسفل : أفعل تفضيل ، أي : أشد سفالة مما كان يتوقع .

وللمفسرين فى هذه الآية الكريمة اتجاهات منها : أن المراد بالرد هنا : الرد على الكبر والضعف ، كما قال - تعالى - : { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ العليم القدير } وعلى هذا الرأى يكون المردودين إلى أسفل سافلين ، أى : إلى أرذل العمر ، هم بعض أفراد جنس الإِنسان ، لأنه من المشاهد أن بعض الناس هم الذين يعيشون تلك الفترة الطويلة من العمر ، كما قال - تعالى - : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وقد رجح ابن جرير هذا الرأى فقال : " وأولى الأقوال فى ذلك عندي بالصحة ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال معناه : ثم رددناه إلى أرذل العمر ، إلى عمر الخرفى الذين ذهبت عقولهم من الهرم والكبر ، فهو فى أسفل من سفل فى إدبار العمر ، وذهاب العقل . . " .

ومنها : أن المراد بالرد هنا : الرد إلى النار ، والمعنى : لقد خلقنا الإِنسان فى أحسن تقويم ، ثم رددناه إلى أقبح صورة ، وأخس هيئة . . حيث ألقينا به في أسفل سافلين ، أي : فى النار ، بسبب استحبابه العمى على الهدى ، والكفر على الإِيمان .

وقد رجح هذا الرأي ابن كثير فقال : قوله : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } أي : إلى النار . . أي : ثم بعد هذا الحسن والنضارة ، مصيره إلى النار ، إن لم يطع الله - تعالى - ويتبع الرسل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ} (5)

واختلف الناس في معنى قوله تعالى : { ثم رددناه أسفل سافلين } ، فقال عكرمة وقتادة والضحاك والنخعي : معناه بالهرم وذهول العقل وتفلت الفكر حتى يصير لا يعلم شيئاً ، إلا أن المؤمن مرفوع عنه القلم ، والاستثناء على هذا منقطع ، وهذا قول حسن ، وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا بل في الجنس من يعتريه ذلك وهذه عبرة منصوبة ، وقرأ ابن مسعود : «السافلين » بالألف واللام .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ} (5)

وجملة : { ثم رددناه أسفل سافلين } معطوفة على جملة : { خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } فهي في حيّز القَسَم .

وضمير الغائب في قوله : { رددناه } عائد إلى الإِنسان فيجري فيه الوجهان المتقدمان من التعريف .

و { ثم } لإفادة التراخي الرُّتْبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، لأن الرد أسفل سافلين بعد خلقه محوطاً بأحسن تقويم عجيب لما فيه من انقلاب ما جُبل عليه ، وتغييرُ الحالة الموجودة أعجب من إيجاد حالة لم تكن ، ولأنّ هذه الجملة هي المقصود من الكلام لتحقيق أن الذين حادوا عن الفطرة صاروا أسفل سافلين .

والمعنى : ولقد صيرناه أسفل سافلين ، أو جعلناه في أسفل سافلين .

والرد حقيقته إرجاع ما أخذ من شخص أو نُقل من موضع إلى ما كان عنده ، ويطلق الرد مجازاً على تصيير الشيء بحالة غير الحالة التي كانت له مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق عن التقييد كما هنا .

و { أسفل } : اسم تفضيل ، أي أشدَّ سفالة ، وأضيف إلى { سافلين } ، أي الموصوفين بالسفالة .

فالمراد : أسفل سافلين في الاعتقاد بخالقه بقرينة قوله : { إلا الذين آمنوا } [ التين : 6 ] .

وحقيقة السفالة : انخفاض المكان ، وتطلق مجازاً شائعاً على الخسة والحقارة في النفس ، فالأسفل الأشد سفالة من غيره في نوعه .

والسافلون : هم سفلة الاعتقاد ، والإِشراكُ أسفل الاعتقاد فيكون { أسفل سافلين } مفعولاً ثانياً ل { رددناه } لأنه أجري مجرى أخوات صار .

والمعنى : أن الإِنسان أخذ يغير ما فطر عليه من التقويم وهو الإِيمان بإله واحد وما يقتضيه ذلك من تقواه ومراقبته فصار أسفل سافلين ، وهل أسفلُ ممن يعتقد إلهية الحجارة والحيوانِ الأبكم مِن بقر أو تماسيح أو ثعابين أو من شجر السَّمُر ، أو مَن يحسب الزمان إلها ويسميه الدهر ، أو من يجحد وجود الصانع وهو يشاهد مصنوعاته ويحس بوجود نفسه قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] .

فإن ملت إلى جانب الأخلاق رأيت الإِنسان يبلغ به انحطاطه إلى حضيض التسفل ، فمِن مَلَق إذا طمِع ، ومن شُحّ إذا شجع ، ومن جزع إذا خاف ، ومن هلع ، فكم من نفوس جُعلت قرابين للآلهة ، ومن أطفال موءودة ، ومن أزواج مقذوفة في النار مع الأموات من أزواجهن ، فهل بعد مثل هذا من تسفل في الأخلاق وأفن الرأي .

وإسناد الرد إلى الله تعالى إسناد مجازي لأنه يكوّن الأسبابَ العالية ونظامَ تفاعلها وتقابلها في الأسباب الفرعية ، حتى تصل إلى الأسباب المباشرة على نحو إسناد مدّ وقبض الظل إليه تعالى في قوله : { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } إلى قوله : { ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً } [ الفرقان : 45 ، 46 ] وعلى نحو الإِسناد في قول الناس : بنَى الأمير مدينةَ كذا .

ويجوز أن يكون { أسفل سافلين } ظرفاً ، أي مكاناً أسفلَ مَا يسكنه السافلون ، فإضافة { أسفل } إلى { سافلين } من إضافة الظرف إلى الحالِّ فيه ، وينتصب { أسفل } ب { رددناه } انتصاب الظرف أو على نزع الخافض ، أي إلى أسفل سافلين ، وذلك هو دار العذاب كقوله : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [ النساء : 145 ] فالرد مستعار لمعنى الجعل في مكان يستحقه ، وإسناد الرد إلى الله تعالى على هذا الوجه حقيقي .

وأحسب أن قوله تعالى : { ثم رددناه أسفل سافلين } انتزَع منه مالك رحمه الله ما ذكره عياض في « المدارك » قال : قال ابن أبي أويس : قال مالك : أقبلَ عليَّ يوماً ربيعة فقال لي : مَن السَّفلة يا مالك ؟ قلت : الذي يأكل بدينه ، قال لي : فمن سفلة السفلة ؟ قلت : الذي يأكل غيرُه بدينه . فقال : ( زِهْ ) {[459]} وصدَرني ( أي ضرب على صدرِي يعني استحساناً ) . وأنَّ المشركين كانوا أسفل سافلين لأنهم ضلّلهم كبراؤهم وأيمتهم فسوّلوا لهم عبادة الأصنام لينالوا قيادتهم .


[459]:- زه بكسر الزاي وها ساكنة كلمة تدل على شدة الاستحسان وهي معربة عن الفارسية ومنها نحت لفظ الزهزة، أي الاستحسان لأن زه تقال مكررة غالبا.