التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (44)

وقوله - تعالى - : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ . . . } معطوف على ما قبله وهو قوله { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } وذلك لتأكيد الرؤيا المنامية بالرؤية في اليقظة .

والمعنى : واذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن التقيتم مع أعدائكم وجها لوجه في بدر ، فكان من فضل الله عليكم قبل أن تلتحموا معهم أن جعل عددهم قليلا في أعينكم وجعل عددكم قليلا في أعينهم ، وذلك لإِغرائهم على خوض المعركة .

أما أنتم فتخوضونها بدون مبالاة بهم لقلتهم في أعينكم ، ولثقتكم بنصر الله إياكم . .

وأما هم فيخوضونها معتمدين على غرورهم وبطرهم وقلتكم في أعينهم ، فيترتب على ذلك أن يتركوا الاستعداد اللازم لقتالكم ، فتكون الدائرة عليهم . .

قال ابن مسعود - وهو ممن حضر بدرا - : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبى : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلا منهم فقلنا له : كم كنتم ؟ قال : ألفا .

وقال أبو جهل - في ذلك اليوم وقبل الالتحام - : إن محمداً وأصحابه أكلة جزور - أي هم قليل يشبعهم لحم ناقة واحدة - خذوهم أخذا و اربطوهم بالحبال . .

وقد أجاد صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية حيث يقول : قوله { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ } الضميران مفعولان يعنى : وإذ يبصركم إياهم . { قَلِيلاً } حال ، وإنما قللهم في أعينهم تصديقا لرؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا . . .

فإن قلت : الغرض من تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر ، فما الغرض من تقليل المؤمنين في أعينهم ؟

قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعده ، ليجترئوا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا يهابوا ، وتقل شوكتهم ، حير يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم ، وذلك قوله

{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الاحتجاج عليهم فاستيضاح الآية البينة من قلتهم أولا ، وكثرتهم آخرا .

ثم قال : فإن قلت : بأى طريق يبصرون الكثير قليلا ؟

قلت : بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير ، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين .

قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين - وكان بين يديه ديك واحد - فقال : ما لى لا أرى هذين الديكين أربعة .

وقوله - سبحانه - { لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } ما فعل من تقليل كل فريق في عين الآخر ، ليقضى أمرا كان مفعولا ، أى : ثابتا في علمه وحكمته ، وهو نشوب القتال المفضى إلى انتصار المؤمنين ، واندحار الكافرين وإلى الله وحده ترجع الأمور لا إلى إحد سواه ، فإن كل شئ عنده بمقدار ، ولأن كل شئ في هذا الكون بقضائه وقدره ، وما من شئ إلا مصيره ومرده إليه .

قال بعض العلماء : ولا يقال إن قوله - تعالى - : { لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } مكرر مع ما سبق ، لأننا نقول : ان المقصود من ذكره أولا - في قوله : إذ أنتم بالعدوة الدنيا . . هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين على الكافرين ، على وجه معجزة دالة على صدق النبى - صلى الله عليه وسلم - والمقصود منه هنا بيان خارق آخر ، وهو تقليلهم في أعين المشركين ثم تكثيرهم للحكم المتقدمة .

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة حكت لنا جانبا من أحداث غزوة بدر بأسولب تصويرى بديع في استحضار لمشاهدها ومواقفها ، وكشفت لنا عن جوانب من مظاهر قدرته الله ، ومن تدبيره المحكم الذي كان فوق تدبير البشر ، ومن تهيئة الاسباب الظاهرة والخفية التي أدت إلى نصر المؤمنين وخذلان الكافرين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (44)

وقوله { وإذ يريكموهم إذا التقيتم } الآية ، { وإذ } عطف على الأولى ، وهذه الرؤية هي في اليقظة بإجماع ، وهي الرؤية التي كانت حين التقوا ووقعت العين على العين ، والمعنى أن الله تعالى لما أراد من إنفاذ قضائه في نصرة الإسلام وإظهاره قلل كل طائفة في عيون الأخرى ، فوقع الخلل في التخمين والحزر{[5385]} الذي يستعمله الناس في هذا التجسد كل طائفة على الأخرى وتتسبب أسباب الحرب ، وري في هذا عن عبد الله بن مسعود أنه قال : لقد قلت ذلك اليوم لرجل إلى جنبي أتظنهم سبعين ؟ قال بل هم مائة ، قال فلما هزمناهم أسرنا منهم رجلاً فقلنا كم كنتم ؟ قال ألفاً .

قال القاضي أبو محمد : ويرد على هذا المعنى في التقليل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأل عما ينحرون كل يوم ، فأخبر أنهم يوماً عشراً ويوماً تسعاً ، قال هم ما بين التسعمائة إلى الألف ، فإما أن عبد الله ومن جرى مجراه لم يعلم بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإما أن نفرض التقليل الذي في الآية تقليل القدر والمهابة والمنزلة من النجدة ، وتقدم في مثل قوله { ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } والأمر المفعول المذكور في الآيتين هو للقصة بأجمعها ، وذهب بعض الناس إلى أنهما لمعنيين من معاني القصة والعموم أولى ، وقوله { وإلى الله ترجع الأمور } تنبيه على أن الحول بأجمعه لله وأن كل أمر فله وإليه ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش «تَرجِع » بفتح التاء وكسر الجيم ، قال أبو حاتم : وهي قراءة عامة الناس ، وقرأ الأعرج وابن كثير وأبو عمرو ونافع وغيرهم «تُرجَع » بضم التاء وفتح الجيم .


[5385]:- حزر الشيء: تقديره بالتخمين.