التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

ثم أخذت السورة - بعد هذا الافتتاح المشتمل على أروع استهلال وأبلغه وأحكمه . . في الحديث عن الغزوة التي كان من ثمارها تلك الأنفال . فاستعرضت مجمل أحداثها ، وصورت نفوس فريق من المؤمنين الذين اشتركوا فيها أكمل تصوير ، استمع معى - أخى القارئ - بتدبر وتعقل إلى قوله - تعالى - : { كَمَآ أَخْرَجَكَ . . . كَرِهَ المجرمون } .

الكاف في قوله - تعالى - : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } بمعنى مثل ، أى : للتشبيه وهى خبر لمبتدأ محذوف هو المشبه ، وما بعدها هو المشبه به ، ووجه الشبه مطلق الكراهة ، وما ترتب على ذلك من خير للمؤمنين .

والمعنى : حال بعض أهل بدل في كراهتهم تقسيمك الغنائم بالسوية ، مثل حال بعضهم في كراهة الخروج للقتال ، مع ما في هذه القسمة والقتال من خير وبركة .

ونحن عندما نستعرض أحداث غزوة بدر ، نرى أنه قد حدث فيها أمران يدلان على عدم الرضا من فريق من الصحابة ، ثم أعقبها الرضا والإِذعان والتسليم لحكم الله ورسوله .

أما الأمر الأول فهو أن فريقا من الصحابة - وأكثرهم من الشبان - كانوا يرون أن قسمة الغنائم بالسوية فيها إجحاف بحقهم ، لأنهم هم الذين قاموا بالنصيب الأوفر في القتال ، وأن غيرهم لم يكن له بلاؤهم - كما سبق أن بينا في أسلوب نزول قوله - تعالى - { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم بدر بين الجميع بالسوية ، كما أمره الله - تعالى - .

وكان هذا التقسيم خيراً للمؤمنين ، إذ أصلح الله به بينهم ، وردهم إلى حالة الرضا والصفاء . .

وأما الأمر الثانى : فهو أن جماعة منهم كرهوا قتال قريش بعد نجاة العير التي خرجوا من أجل الحصول عليها ، وسبب كراهيته لذلك أنهم خرجوا أجل الحصول عليها ، وسبب كراهيتهم لذلك أنهم خرجوا بدون استعداد للقتال ، لا من حيث العدد ولا من حيث العدد .

ولكنهم استجابوا بعد قليل لما نصحهم به رسولهم - صلى الله عليه وسلم - من وجوب قتال قريش . . وكان في هذه الاستجابة نص الإِسلام نصر الإِسلام ، ودحر الطغيان .

قال ابن كثير : روى الحافظ بن مردويه - بسنده - عن أبى أيوب الأنصارى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بالمدينة : " " إنى أخبرت عن عير أبى سفيان بأنها مقبلة ، فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمنا إياها ؟ فقلنا نعم . فخرج وخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا :

" ما ترون في قتال القوم ؟ إنهم قد أخبروا بخروجكم " ؟ فقلنا : ما لنا طاقة بقتال العدو ولكننا أردنا العير ، ثم قال : " ما ترون في تقال القوم " ؟ فقال المقداد بن عمرو : إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال بنو إسرائيل لموسى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ . . } ولكن إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون " .

وفى رواية أن أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ تكلموا بكلام سر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

هذا ، وما قررناه قبل ذلك من أن الكاف في قوله - تعالى - { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ . . } بمعنى مثل ، هو ما نرجحه من بين أقوال المفسرين التي أوصلها بعضهم إلى عشرين قولا .

قال الجمل ، قوله { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ . . } فيه عشرون وجهاً ، أحدهما : أن الكاف نعت لمصدر محذوف تقديره ؛ الأنفعال ثابتة لله ثوبتاً لكما أخرجك ربك ، أى : ثبوتاً بالحق كإخراجك من بيتك ، يعنى أنه لا مرية في ذلك .

الثانى : أن تقديره وأصلحوا ذات بينكم إصلاحاً كما أخرجك ، وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد .

الثالث : تقديره : وأطيعوا الله ورسوله طاعة ثابتة محققة كما أخرجك أى : كما أن إخراج الله إياك لا مرية فيه ولا شبهة . الخ . .

والحق أن معظم الوجوه النحوية التي ذكرها الجمل وغيره من المفسرين - كأبى حيان والآلوسى - أقول : إن معظم هذه الوجوه يبدو عليها التكلف ومجانبة الصواب .

ورحم الله صاحب الكشاف فقد أهمل أكثر ما ذكره المفسرون في ذلك ، واكتفى بوجهين فقال :

قوله : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } . فيه وجهان أحدهما : أن يرتفع محل الكاف على أنه مبتدأ محذوف تقديره : هذه الحال كحال إخراجك . يعنى أن حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيل الغزوة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب .

والثانى : أن ينتصب على أنه صفة مقدر الفعل المقدر في قوله : { الأنفال للَّهِ والرسول } أى : الأنفال استقرت لله والرسول ، وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون .

والوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما صاحب الكشاف هو الذي نميل إليه ، وهو الذي ذكرناه قبل ذلك بصورة أكثر تفصيلا .

وأضاف - سبحانه - الإِخراج إلى ذاته فقال : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } للإِشعار بأن هذا الإِخراج كان بوحى منه - سبحانه - وبأنه هو الراعى له في هذا الخروج .

والمراد بالبيت في قوله : { مِن بَيْتِكَ } مسكنه - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أو المراد المدينة نفسها ، لأنها مثواه ومستقرة ، فهى في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه .

وقوله : { بالحق } متعلق بقوله : { أَخْرَجَكَ } والباء للسببية ، أى : أخرجك بسبب نصرة الحق ، وإعلاء كلمة الدين ، وإزهاق باطل المبطلين .

ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من مفعول أخرجك ، وتكون الباء للملابسة ، أى : أخرجك إخراجاً متلبساً بالحق الذي لا يحوم حوله باطل .

قال الآلوسى : وقوله : { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ } ، أى : للخروج ، إما لعدم الاستعداد للقتال ، أو للميل للغنيمة ، أو للنفرة الطبيعية عنه ، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار ، فلا يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة .

والجملة في موضع الحال ، وهى حال مقدرة ؛ لأن الكراهة وقعت بعد الخروج .

والمعنى الإِجمال للآية الكريمة : حال بعض المسلمين في بدر في كراهة قسمة الغنيمة بالسوية بينهم ، مثل حال فريق منهم في كراهة الخروج للقتال ، مع أنه قد ثبت أن هذه القسمة ولك القتال ، كان فيهما الخير لهم ، إذ الخير فيما قدره الله وأراده ، لا فيما يظنون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

اختلف الناس في الشيء الذي تتعلق به الكاف من قوله { كما } حسبما نبين من الأقوال التي أنا ذاكرها بعد بحول الله ، والذي يلتئم به المعنى ويحسن سرد الألفاظ قولان ، وأنا أبدأ بهما ، قال الفراء : التقدير : امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا كما أخرجك ربك ، هذا نص قوله في هداية مكي رحمه الله ، والعبارة بقوله : امض لأمرك ونفل من شئت غير محررة ، وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال : إن هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال ، كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم ، فكانت فيه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجه الله من بيته فكانت في ذلك الخيرة ، فتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم ها هنا للخروج ، وحكم الله في النفل بأنه لله وللرسول دونهم هو بمثابة إخراجه نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته ، ثم كانت الخيرة في القصتين فيما صنع الله ، وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله { يجادلونك } كلاماً مستأنفاً يراد به الكفار ، أي يجادلونك في شريعة الإسلام من بعد ما تبين الحق فيها كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي ذكرت من أن { يجادلونك } في الكفار منصوص{[1]} والقول الثاني قال مجاهد والكسائي وغيرهما : المعنى في هذه الآية كما أخرجك ربك من بيتك على كراهية من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودون غير ذات الشوكة من بعد ما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون هم .

قال القاضي أبو محمد : والتقدير على هذا التأويل يجادلونك في الحق مجادلة ككراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك ، فالمجادلة على هذا التأويل بمثابة الكراهية وكذلك وقع التشبيه في المعنى ، وقائل هذه المقالة يقول إن المجادلين هم المؤمنون ، وقائل المقالة الأولى يقول إن المجادلين هم المشركون ، فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن رصف اللفظ وقال الأخفش : الكاف نعت ل { حقاً } [ الأنفال : 4 ] ، والتقدير هم المؤمنون حقاً كما أخرجك .

قال القاضي أبو محمد : والمعنى على هذا التأويل كما تراه لا يتناسق وقيل الكاف في موضع رفع والتقدير : كما أخرجك ربك فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر .

قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر ، وقال أبو عبيدة : هو قسم أي لهم درجات ومغفرة ورزق كريم كما أخرجك بتقدير والذي أخرجك ، فالكاف في معنى الواو و «ما » بمعنى الذي ، وقال الزجّاج : الكاف في موضع نصب والتقدير الأنفال ثابتة لك ثباتاً كما أخرجك ربك ، وقيل : الكاف في موضع التقدير لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ، هذا وعد حق كما أخرجك ، وقيل المعنى : وأصلحوا ذات بينكم ذلك خير لكم كما أخرجك ، والكاف نعت لخبر ابتداء محذوف ، وقيل التقدير : قل الأنفال لله والرسول كما أخرجك ، وهذا نحو أول قول ذكرته ، وقال عكرمة : التقدير وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما أخرجك ربك أي الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيراً لكم{[2]} ، وقوله { من بيتك } يريد من المدينة يثرب ، قاله جمهور المفسرين وقال ابن بكير : المعنى كما أخرجك من مكة وقت الهجرة .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.