ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية الجامعة فقال : { وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
أى : ولله - تعالى - وحده علم جميع ما غاب عن الحواس فى السموات والأرض ، وإليه وحده يرجع الأمر كله من إحياء وإماتة ، وهداية وضلال ، وصحة ومرض ، ونصر وهزيمة .
وما دام الأمر كذلك { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } أى : فأخلص له العبادة ، واجعل توكلك عليه وحده .
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو مطلع وبصير بأعمال عباده جميعا ، لا يعزب عنه مثقال ذرة منها ، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
{ ولله غيب السماوات والأرض } خاصة لا يخفى عليه خافية مما فيهما . { وإليه يُرجع الأمر كله } فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه . وقرأ نافع وحفص و " يرجع " على البناء للمفعول . { فاعبده وتوكل عليه } فإنه كافيك . وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع العابد . { وما ربك بغافل عما تعملون } أنت وهم فيجازي كلا ما يستحقه . وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالياء هنا وفي آخر " النمل " .
وقوله تعالى : { ولله غيب السماوات والأرض } الآية ، هذه آية تعظم وانفراد بما لا حظ لمخلوق فيه ، وهو علم الغيب ، وتبين أن الخير والشر ، وجليل الأشياء وحقيرها - مصروف إلى أحكام مالكه{[6548]} ، ثم أمر البشر بالعبادة والتوكل على الله تعالى ، وفيها زوال همه وصلاحه ووصوله إلى رضوان الله .
وقرأ السبعة - غير نافع - «يرجعُ الأمرُ » على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ نافع وحفص عن عاصم : «يُرجع الأمرُ » على بنائه للمفعول ورواها ابن أبي الزناد عن أهل المدينة ، وقرأ «تعملون » بالتاء من فوق ، نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ، وهي قراءة الأعرج والحسن وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمرو وقتادة والجحدري ، واختلف عن الحسن وعيسى ، وقرأ الباقون «يعملون » بالياء على كناية الغائب .
كلام جامع وهو تذييل للسورة مؤذن بختامها ، فهو من براعة المقطع . والواو عاطفة كلاماً على كلام ، أوْ واو الاعتراض في آخر الكلام ومثله كثير .
واللاّم في { لله } للملك وهو ملك إحاطة العلم ، أي لله ما غاب عن علم الناس في السماوات والأرض . وهذا كلام يجمع بشارة المؤمنين بما وُعدوا من النعيم المغيب عنهم ، ونذارة المشركين بما تُوعَدوا به من العذاب المغيب عنهم في الدنيا والآخرة .
وتقديم المجروريْن في { ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر } لإفادة الاختصاص ، أي الله لا غيره يملك غيب السماوات والأرض ، لأنّ ذلك ممّا لا يشاركه فيه أحد . وإلى الله لا إلى غيره يرجع الأمر كله ، وهو تعريض بفساد آراء الذين عبدوا غيره ، لأنّ من لم يكن كذلك لا يستحق أن يعبد ، ومن كان كذلك كان حقيقاً بأن يفرد بالعبادة .
ومعنى إرجاع الأمر إليه : أنّ أمر التّدبير والنصر والخذلان وغير ذلك يرجع إلى الله ، أي إلى علمه وقدرته ، وإنْ حسَب الناس وهيّأوا فطالما كانت الأمور حاصلة على خلاف ما استعد إليه المستعد ، وكثيراً ما اعتزّ العزيز بعزّته فلقي الخذلان من حيث لا يرتقب ، وربّما كان المستضعفون بمحل العزة والنصرة على أولي العزة والقوة .
والتعريف في { الأمر } تعريف الجنس فيعمّ الأمور ، وتأكيد الأمر ب { كله } للتّنصيص على العموم .
وقرأ مَن عدا نافعاً { يرجع } ببناء الفعل بصيغة النائب ، أي يرجع كل ذي أمر أمره إلى الله . وقرأه نافع بصيغة الفاعل على أن يكون ( الأمر ) هو فاعل الرجوع ، أي يرجع هو إلى الله .
وعلى كلتا القراءتين فالرجوع تمثيل لهيئة عجز الناس عن التصرف في الأمور حسب رغباتهم بهيئة متناول شيء للتصَرّف به ثم عدم استطاعته التصرف به فيرجعه إلى الحري بالتصرف به ، أو تمثيل لهيئة خضوع الأمور إلى تصرف الله دون تصرّف المحاولين التصرف فيها بهيئة المتجوّل الباحث عن مكان يستقرّ به ثم إيوائه إلى المقرّ اللائق به ورجوعه إليه ، فهي تمثيلية مكنية رُمز إليها بفعل { يرجع } وتعديته ب { إليه } .
وتفريع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الله والتوكّل عليه على رجوع الأمر كله إليه ظاهر ، لأنّ الله هو الحقيق بأن يعبد وأن يتوكّل عليه في كلّ مهم . وهو تعريض بالتخطئة للذين عبدوا غيره وتوكّلوا على شفاعة الآلهة ونفعها . ويتضمّن أمر النبي عليه الصلاة والسّلام بالدّوام على العبادة والتوكّل .
والمراد أن يعبده دون غيره ويتوكّل عليه دون غيره بقرينة { وإليه يرجع الأمر كلّه } ، وبقرينة التفريع لأنّ الذي يرجع إليه كل أمر لا يعقل أن يصرف شيء من العبادة ولا من التوكّل إلى غيره ، فلذلك لم يؤْتَ بصيغة تدل على تخصيصه بالعبادة للاستغناء عن ذلك بوجوب سبب تخصيصه بهما .
وجملة { وما ربك بغافل عَمّا تعملون } فذلكة جامعة ، فهو تذييل لما تقدّم . والواو فيه كَالْوَاو في قوله : { ولله غيبُ السّماوات والأرض } فإنّ عدم غفلته عن أيّ عمل أنّه يعطي كل عامل جزاء عمله إنْ خيراً فخير وإنْ شراً فشرّ ، ولذلك علّق وصف الغافل بالعمل ولم يعلّق بالذوات نحو : بغافل عنكم ، إيماء إلى أنّ على العمل جزاء .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب « عمّا تعملون » بتاء فوقية خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم والناس معه في الخطاب . وقرأ من عداهم بالمثنّاة التحتيّة على أن يعود الضمير إلى الكفّار فهو تسلية للنبيء عليه الصلاة والسّلام وتهديد للمشركين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.