و " أم " فى قوله - تعالى - : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } هى المنقطعة التى بمعنى بل والهمزة . والاستفهام للتعجيب من قولهم وإنكاره .
والافتراء : الاختلاق . يقال : فلان افترى الكذب ، أى : اختلقه . وأصله من الفرى بمعنى قطع الجلد . وأكثر ما يكون للإِفساد .
والمعنى : بل أيقول هؤلاء المشركون ، إن محمدا صلى الله عليه وسلم ، قد افترى هذا القرآن ، واختلقه من عند نفسه . . . ؟
وقوله - عز وجل - : { بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ } رد على أقوالهم الباطلة .
أى : لا تستمع - أيها الرسول الكريم - إلى أقاويلهم الفاسدة ، فإن هذا القرآن هو الحق الصادر إليك من ربك - عز وجل - .
ثم بين - سبحانه - الحكمة فى إرساله صلى الله عليه وسلم - وفى إنزال القرآن عليه فقال : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } .
والإِنذار : هو التخويف من ارتكاب شئ تسوء عاقبته . و " ما " نافية .
و " نذير " فاعل " أتاهم " و " من " مزيدة للتأكيد .
أى : هذا القرآن - يا محمد - هو معجزتك الكبرى ، وقد أنزلناه إليك لتنذر قوماً لم يأتهم نذير من قبلك بما جئتهم به من هدايات وإرشادات وآداب .
وقد فعلنا ذلك رجاء أن يهتدوا إلى الصراط المستقيم ، ويستقبلوا دعوتك بالطاعة والاستجابة لما تدعوهم إليه .
ولا يقال : إن إسماعيل - عليه السلام - قد أرسل إلى آباء هؤلاء العرب الذين أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم ، لأن رسالة إسماعيل قد اندرست بطول الزمن ، ولم ينقلها الخلف عن السلف ، فكانت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قومه ، جديدة فى منهجها وأحكامها وتشريعاتها .
{ أم يقولون افتراه } فإنه إنكار لكونه من رب العالمين وقوله : { بل هو الحق من ربك } فإنه تقرير له ، ونظم الكلام على هذا أنه أشار أولا إلى إعجازه ، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين ، وقرر ذلك بنفي الريب عنه ، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجيبا منه ، فإن { أم } منقطعة ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من الله وبين المقصود من تنزيله فقال : { لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك } إذا كانوا أهل الفترة . { لعلهم يهتدون } بإنذارك إياهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم يقولون} أنه {افتراه} محمد صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، فأكذبهم الله تعالى.
{بل هو الحق} يعني القرآن {من ربك} ولو لم يكن من ربك لم يكن حقا وكان باطلا.
{لتنذر قوما} يعني كفار قريش {ما آتاهم} لم يأتهم {من نذير} من رسول {من قبلك} يا محمد {لعلهم} لكي {يهتدون} من الضلالة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ" يقول تعالى ذكره: يقول المشركون بالله: اختلق هذا الكتاب محمد من قِبل نفسه، وتكذّبه و «أم» هذه تقرير، وقد بيّنا في غير موضع من كتابنا، أن العرب إذا اعترضت بالاستفهام في أضعاف كلام قد تقدّم بعضه أن يستفهم بأم. وقد زعم بعضهم أن معنى ذلك: ويقولون. وقال: أم بمعنى الواو، بمعنى بل في مثل هذا الموضع، ثم أكذبهم تعالى ذكره فقال: ما هو كما تزعمون وتقولون من أن محمدا افتراه، بل هو الحقّ والصدق من عند ربك يا محمد، أنزله إليك، لتنذر قوما بأس الله وسطوته، أن يحلّ بهم على كفرهم به، "ما أتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ منْ قَبْلكَ "يقول: لم يأت هؤلاء القوم الذين أرسلك ربك يا محمد إليهم، وهم قومه من قريش، نذير ينذرهم بأس الله على كفرهم قبلك.
وقوله: "لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ" يقول: ليتبّينوا سبيل الحقّ فيعرفوه ويؤمنوا به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أم يقولون} هو استفهام وشك في الظاهر، لكنه من الله يخرّج على تحقيق إثبات وإيجاب أو تحقيق نفي، إذ لا يحتمل الاستفهام والسؤال، فعلى ذلك كأنه قال ههنا: بل يقولون افتراه.
{لتنذر قوما} أي لتنذر بالكتاب الذي أنزل.
{قوما ما أتاهم من نذير من قبلك} هذا يحتمل وجهين: أحدهما: على الجحد أي لتنذر قوما لم يأتهم نذير، وهم أهل الفترة الذين كانوا بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
والثاني: {لتنذر قوما} الذين قد أتاهم نذير من قبلك، وهم آباؤهم وأجدادهم الذين كانوا من قبله، الذين قد أتاهم نذير من قبلهم.
{لعلهم يهتدون} هذا أيضا يحتمل وجهين: أحدهما: لتنذر قوما لكي تلزمهم به حجة الاهتداء. والثاني: لتنذر قوما على رجاء وطمع أن يهتدوا، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" بل هو الحق "من عند الله، والحق هو كل شيء كان معتقده على ما هو به مما يدعو العقل اليه واستحقاق المدح عليه؛ وتعظيمه الكتاب حق، لأن من اعتقد أنه من عند الله كان معتقده على ما هو به. والباطل نقيض الحق، وهو ما كان معتقده لا على ما هو به.
"لتنذر" أي لتخوف يا محمد "قوما" لم يأتهم مخوف قبلك.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قوله {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} لأنّ قولهم: هذا مفترى، إنكار لأن يكون من رب العالمين، وكذلك قوله: {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ} وما فيه من تقدير أنه من الله وهذا أسلوب صحيح محكم: أثبت أولاً أن تنزيله من رب العالمين، وأن ذلك ما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} لأن «أم» هي المنقطعة الكائنة بمعنى: بل والهمزة، إنكاراً لقولهم وتعجيباً منه لظهور أمره: في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه، ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك...
فإن قلت: كيف نفى أن يرتاب في أنه من الله، وقد أثبت ما هو أطم من الريب، وهو قولهم: {افتراه}؟ قلت: معنى {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أن لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله: لأن نافي الريب ومميطه معه لا ينفك عنه وهو كونه معجزاً للبشر، ومثله أبعد شيء من الريب. وأما قولهم: {افتراه} فإما قول متعنت مع علمه أنه من الله لظهور الإعجاز له، أو جاهل يقوله قبل التأمل والنظر لأنه سمع الناس يقولونه: {مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ} كقوله: {مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ} [يس: 6] وذلك أن قريشاً لم يبعث الله إليهم رسولاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: فإذا لم يأتهم نذير لم تقم عليهم حجة. قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم؛ لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فيه وجهان: أن يكون على الترجي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44] على الترجي من موسى وهرون عليهما السلام، وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{افتراه} كلام جاهل لم يمعن النظر، أو جاحد مستيقن أنه من عند الله، فقال ذلك حسداً، أو حكماً من الله عليه بالضلال.
أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولاً بخصوصيتهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم، لا لهم ولا لآبائهم، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم، وعبدوا الأصنام وعم ذلك، فهم مندرجون تحت قوله: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} أي شريعته ودينه؛ والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر، بل يكون نذيراً لمن باشره، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير، ولم يباشرهم نذير غير محمد صلى الله عليه وسلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لتنذر قوماً} أي ذوي قوة جلد ومنعة وصلاحية للقيام بما أمرهم به.
ولما ذكر علة الإنزال، أتبعها علة الإنذار فقال: {لعلهم يهتدون}.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ} بإضافة اسم الربِّ إلى ضميره عليه الصَّلاة والسَّلام بعد إضافته فيما سبق إلى العالمين تشريفاً له عليه الصَّلاة والسَّلام ثم أيَّد ذلك ببيان غايته حيثُ قيل: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فإنَّ بيان غايةِ الشيءِ وحكمته لاسيَّما عند كونها غاية حميدةً مستتبعة لمنافعَ جليلةٍ في وقت شدَّةِ الحاجة إليها؛ ممَّا يُقرر وجودَ الشيءِ ويؤكِّده لا محالة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(بل هو الحق من ربك).. الحق بما في طبيعته من صدق ومطابقة لما في الفطرة من الحق الأزلي؛ وما في طبيعة الكون كله من هذا الحق الثابت، المستقر في كيانه، الملحوظ في تناسقه، واطراد نظامه، وثبات هذا النظام، وشموله وعدم تصادم أجزائه، أو تناثرها، وتعارف هذه الأجزاء وتلاقيها. الحق.. بما يحققه من اتصال بين البشر الذين يرتضون منهجه وهذا الكون الذي يعيشون فيه ونواميسه الكلية الحق.. الذي تستجيب له الفطرة حين يلمسها إيقاعه، في يسر وسهولة، وفي غير مشقة ولا عنت؛ لأنه يلتقي بما فيها من حق أزلي قديم. الحق.. الذي لا يتفرق ولا يتعارض وهو يرسم منهاج الحياة البشرية كاملا...الحق الذي لا يظلم أحدا في دنيا أو آخرة، ولا يظلم قوة في نفس ولا طاقة.
(بل هو الحق من ربك).. فما هو من عندك، إنما هو من عند ربك وهو رب العالمين.
(لعلهم يهتدون) فهدايتهم مرجوة بهذا الكتاب، لما فيه من الحق الذي يخاطب الفطر والقلوب.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وجملة (لعلّهم يهتدون) إشارة إلى أنّ القرآن يهيئ أرضية الهداية، إلاّ أنّ التصميم واتخاذ القرار النهائي موكول ومرتبط بنفس الإنسان.