التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُعۡرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ وَيَقُولُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمۡۚ أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (18)

ثم وصف - سبحانه - الكافرين بالإِسلام ببضعة عشر وصفا . وبين سوء مصيرهم كما بين حسن عاقبة المؤمنين وضرب مثلا لحال الفريقين فقال - تعالى - :

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى . . . } .

قال الإِمام الرازى : اعلم أن الكفار كانت لهم عادات كثيرة ، وطرق مختلفة فمنها شدة حرصهم على الدنيا ، ورغبتهم فى تحصيلها ، وقد أبطل الله - هذه الطريقة بقوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا . . . } إلى آخر الآية . ومنها أنهم كانوا ينكرون نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويقدحرون فى معجزاته وقد أبطل الله - تعالى - ذلك بقوله { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ . . . } ومنها أنهم كانوا يزعمون فى الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله ، وقد أبطل الله - تعالى - ذلك بهذه الآيات وذلك لأن هذا الكلام افتراء على الله . . .

وجملة { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً . . . } معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } والاستفهام للإِنكار والنفى ، والتقدير : لا أحد أشد ظلما ممن تعمد الكذب على الله - تعالى - بأن زعم بأن الأصنام تشفع لعابديها عنده ، أو زعم بأن الملائكة بنات الله ، أو أن هذا القرآن ليس من عنده - سبحانه - .

وقوله : { أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } بيا لما يقال لهؤلاء الظالمين على سبيل التشهير والتوبيخ يوم القيامة والأشهاد : جميع شهيد كشريف وأشراف . أو جمع شاهد بمعنى حاضر كصاحب وأصحاب المراد بهم - على الراجح - جميع أهل الموقف من الملائكة الذين كانوا يسجلون عليهم أقوالهم وأعمالهم ، ومن الأنبياء والمؤمنين .

والمعنى : أولئك الموصوفون بافتراء الكذب على الله - تعالى - يعرضون يوم الحساب ، على ربهم ومالك أمرهم ، كما يعرض المجرم للقصاص منه ، ولفضيحته أمام الناس .

{ وَيَقُولُ الأشهاد } الذين يشهدون عليهم بأنهم قد افتروا الكذب على الله { هؤلاء } المجرمون هم { الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ } بأن نسبوا إليه ما هو منزه عنه .

{ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } الذين وضعوا الأمور فى غير مواضعها ، فأوردوا أنفسهم المهالك .

وجئ باسم الإِشارة { هؤلاء } زيادة فى التشنيع عليهم ، وفى تميزهم عن غيرهم وصدرت جملة { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } بأداة الاستفتاح { أَلاَ } لتأكيد الدعاء عليهم بالطرد والإِبعاد عن رحمة الله - تعالى - بسبب افترائهم الكذب .

والظاهر أن هذه الجملة من كلام الأشهاد ويؤيد ذلك ما أخرجه الشيخان عن صفوان بن محرز قال : " كنت آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال : كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فى النجوى يوم القيامة ؟ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله - عز وجل - يدنى المؤمن فيضع عليه كتفه - أى ستره وعفوه - ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى فى نفسه أنه قد هلك قال : فإنى قد سترتها عليك فى الدنيا وإنى أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار والمافقون فيقول الأشهاد { هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } " .

ويجوز أن تكون هذه الجملة من كلام الله - تعالى - على سبيل الاستئناف بعد أن قال الأشهاد { هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُعۡرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ وَيَقُولُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمۡۚ أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (18)

يبين تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رءوس الخلائق ؛ من الملائكة ، والرسل ، والأنبياء ، وسائر البشر والجان ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا بَهْز وعفان قالا أخبرنا هَمَّام ، حدثنا قتادة ، عن صفوان بن مُحْرِز قال : كنت آخذًا بيد ابن عمر ، إذ عرض له رجل قال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول : " إن الله عز وجل يدني المؤمن ، فيضع عليه كنَفَه ، ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا{[14540]} ؟ أتعرف ذنب كذا{[14541]} ؟ أتعرف ذنب كذا{[14542]} ؟ حتى إذا قَرَّره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وإني أغفرها لك اليوم . ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيقول : { الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }

أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين ، من حديث قتادة به{[14543]} .


[14540]:- في أ : "كذا وكذا".
[14541]:- في أ : "كذا وكذا".
[14542]:- في أ : "كذا وكذا".
[14543]:- المسند (2/74) وصحيح البخاري برقم (4685) وصحيح مسلم برقم (1768).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُعۡرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ وَيَقُولُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمۡۚ أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (18)

لما انقضى الكلام من إبطال زعمهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم افترى القرآن ونسبه إلى الله ، وتعجيزهم عن برهان لما زعموه ، كَرّ عليهم أن قد وضح أنهم المفترون على الله عدة أكاذيب ، منها نفيهم أن يكون القرآن منزّلاً من عنده .

فعطفت جملة { ومن أظلم ممن افترى } على جملة { ومن يكْفر به من الأحزاب فالنار موعده } [ هود : 17 ] لبيان استحقاقهم النار على كفرهم بالقرآن لأنهم كفروا به افتراء على الله إذ نسبوا القرآن إلى غير مَن أنزله ، وزعموا أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم افتراه ، فكانوا بالغين غاية الظلم حتى لقد يسأل عن وجود فريق أظلَمَ منهم سؤالَ إنكار يؤول إلى معنى النفي ، أي لا أحد أظلم . وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } في سورة [ البقرة : 114 ] ، وفي سورة [ الأعراف : 37 ] في قوله : { فمن أظلم ممّن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته } وافتراؤهم على الله هو ما وضعوه من دين الشرك ، كقولهم : إن الأصنام شفعاؤهم عند الله ، وقولهم في كثير من أمور دينهم { واللّهُ أمرَنا بها } [ الأعراف : 28 ] . وقال تعالى : { ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حامٍ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } [ المائدة : 103 ] أي إذ يقولون : أمرنا الله بذلك .

وجملة { أولئك يعرضون على ربهم } استئناف . وتصديرها باسم الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخَبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الوصف ، وهذا أشد الظلم كما تقدم في { أولئك على هدى من ربهم } في سورة [ البقرة : 5 ] .

ولمَا يؤذن به اسم الإشارة من معنى تعليل ما قبله فيما بعده علم أن عرضهم على ربهم عَرض زجر وانتقام .

والعرض إذا عدّي بحرف ( على ) أفاد معنى الإحضار بإراءة .

واختيار وصف السبب للإيماء إلى القدرة عليهم .

وعطف فعل ( يقول ) على فعل ( يعرضون ) الذي هو خبر ، فهو عطف على جزء الجملة السابقة وهو هنا ابتداء عطف جملة على جملة فكلا الفعلين مقصود بالإخبار عَن اسم الإشارة .

والمعنى أولئك يعرضون على الله للعقاب ويعلن الأشهاد بأنهم كذبوا على ربهم فضحاً لهم .

والأشهاد : جمع شاهد بمعنى حاضر ، أو جمع شهيد بمعنى المخبر بما عليهم من الحق . وهؤلاء الأشهادُ من الملائكة .

واستحضارهم بطريق اسم الإشارة لتمييزهم للناس كلهم حتى يشتهر ما سيخبر به عن حالهم ، والمقصود من ذلك شهرتهم بالسوء وافتضاحهم .

والإتيانُ بالموصول في الخبر عنهم إيماء إلى سببية ذلك الوصف الذي في الصلة فيما يرد عليهم من الحكم وهو { ألا لعنة الله على الظالمين } ، على أن المقصود تشهيرهم دون الشهادة . والمقصود من إعلان هذ الصفة التشهير والخزي لا إثبات كذبهم لأن إثبات ذلك حاصل في صحف أعمالهم ولذلك لم يسند العرض إلى أعمالهم وأسند إلى ذواتهم في قوله : { أولئك يعرضون على ربهم } .

وجملة { ألاَ لعنة الله على الظالِمين } من بقية قول الأشهاد . وافتتاحها بحرف التنبيه يناسب مقام التشهير ، والخبر مستعمل في الدعاء خزياً وتحقيراً لهم ، وممّا يؤيد أنه من قول الأشهاد وقوع نظيره في سورة [ الأعراف : 44 ] مصرحاً فيه بذلك { فأذّن مؤذنٌ بينهم أن لعنة الله على الظالمين } الآية .