ثم فصل - سبحانه - الحديث عن موسى - عليه السلام - فذكر ما ألهمه لأمه عند ولادته . وما قالته امرأة فرعون له عند التقاط آل فرعون لموسى ، وما كانت عليه أم موسى من حيرة وقلق ، وما قالته لأخته ، وكيف رد الله - تعالى - بفضله وكرمه موسى إلى أمه . .
لنستمع إلى السورة الكريمة ، وهى تفصل هذه الأحداث ، بأسلوبها البديع المؤثر فتقول : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ . . . } .
قال الإمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما قال : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا } ابتدأ بذكر أوائل نعمه فى هذا الباب فقال : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } .
والوحى إلى أم موسى ، يجوز أن يكون عن طريق الإلهام ، كما فى قوله - تعالى - : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل . . } أو عن طريق المنام ، أو عن طريق إرسال ملك أخبرها بذلك .
قال الآلوسى : والظاهر أن الإيحاء إليها كان بإرسال ملك ، ولا ينافى ذلك الإجماع على عدم نبوتها ، لما أن الملائكة - عليهم السلام - قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم .
والظاهر - أيضا - أن هذا الإيحاء كان بعد الولادة . . وقيل : كان قبلها . . .
و { أَنْ } فى قوله { أَنْ أَرْضِعِيهِ } مفسرة ، لأن الوحى فيه معنى القول دون حروفه .
والخوف : حالة نفسية تعترى الإنسان ، فتجعله مضطرب المشاعر ، لتوقعه حصول أمر يكرهه .
والحزن : اكتئاب نفسى يحدث للإنسان من أجل وقوع ما يكرهه ، كموت عزيز لديه . أو فقده لشىء يحبه .
وفى الكلام حذف يعرف من السياق ، والتقدير : وحملت أم موسى به فى الوقت الذى كان فرعون يذبح الأبناء ، ويستحيى النساء ، وأخفت حملها عن غيرها ، فلما وضعته اصابها ما أصابها من خوف وفزع على مصير ابنها ، وهنا ألهمناها بقدرتنا وإرادتنا . وقذفنا فى قلبها أن أرضعيه فى خفاء وكتمان { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } من فرعون وحاشيته أن يقتلوه كما قتلوا غيره من أبناء بنى إسرائيل .
{ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } أى : فى البحر والمراد به نهر النيل ، وسمى بحرا لاتساعه ، وإن كان الغالب إطلاق البحر على المياه غير العذبة .
{ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } أى : ولا تخافى عليه من حصول مكروه له ، ولا تحزنى لمفارقته لك ، فهو فى رعايتنا وحمايتنا ، ومن رعاه الله - تعالى - وحماه ، فلا خوف عليه ولا حزن .
وجملة { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } تعليل لنهى عن الخوف والحزن ، وتبشير لها بأن ابنها سيعود إليها ، وسيكون من رسل الله - عز وجل - .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما المراد بالخوفين - فى الآية - حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر ؟
قلت : أما الأول ، فالخوف عليه من القتل ، لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته ، فينموا عليه . وأما الثانى : فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ، ومن الوقوع فى يد بعض العيون المبثوتة من قبل فرعون لى تطلب الولدان .
فإن قلت : ما الفرق بين الخوف والحزن ؟ قلت : الخوف ، غم يلحق الإنسان لشىء متوقع .
والحزن : غم يلحقه لشىء وقع ، فنهيت عنهما جميعا وأومنت بالوحى إليها ، ووعدت بما يلسيها ، ويمطئن قلبها ، ويملؤها غبطة وسرورا ، وهو رده إليها . وجعله من المرسلين .
وهكذا نجد الآية الكريمة قد اشتملت على أبلغ الأساليب وأبدعها ، فى بيان قدرة الله - تعالى - ورعايته لمن يريد رعايته .
قالوا : مدح الأصمعى امرأة لإنشادها شعرا حسنا ، فقرأت هذه الآية الكريمة قم قالت له : أبعد هذه الآية فصاحة ، لقد اشتملت على أمرين وهما { أَرْضِعِيهِ } { فَأَلْقِيهِ } ونهيين وهما { لاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } وخبرين { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } وبشارتين فى ضمن الخبرين وهما : الرد والجعل المذكوران .
ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل ، خافت القبط أن يُفْني بني إسرائيل{[22219]} فَيَلُون{[22220]} هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة . فقالوا لفرعون : إنه يوشك - إن استمر هذا الحال - أن يموت شيوخهم ، وغلمانهم لا يعيشون ، ونساؤهم لا يمكن أن يَقُمْن بما يقوم به رجالهم من الأعمال ، فيخلص إلينا ذلك . فأمر بقتل الولدان عامًا وتركهم عامًا ، فولد هارون ، عليه السلام ، في السنة التي يتركون فيها الولدان ، وولد موسى ، عليه السلام ، في السنة التي يقتلون فيها الولدان ، وكان لفرعون أناس موكلون بذلك ، وقوابل يَدُرْنَ على النساء ، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها ، فإذا كان وقت ولادتها لا يَقْبَلُها إلا نساء القبط ، فإذا ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن ، وإن ولدت غلامًا دخل أولئك الذبَّاحون ، بأيديهم الشفار المرهفة ، فقتلوه ومضوا قَبَّحَهُم الله . فلما حملت أم موسى به ، عليه السلام ، لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها ، ولم تفطن لها الدايات ، ولكن لما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا ، وخافت عليه خوفًا شديدًا وأحبته حبًّا زائدًا ، وكان موسى ، عليه السلام ، لا يراه أحد إلا أحبه ، فالسعيد من أحبه طبعا وشرعًا قال الله تعالى : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } [ طه : 39 ] . فلما ضاقت ذرعًا به ألهمت في سرها ، وألقي في خلدها ، ونفث في روعها ، كما قال الله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } . وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل ، فاتخذت تابوتًا ، ومهدَت فيه مهدًا ، وجعلت ترضع ولدها ، فإذا دخل عليها أحد مِمَّنْ تخاف جعلته في ذلك التابوت ، وسيرته{[22221]} في البحر ، وربطته{[22222]} بحبل عندها . فلما كان ذات يوم دخل عليها مَنْ تخافه ، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت ، وأرسلته في البحر وذهلت عن أن تربطه ، فذهب مع الماء واحتمله ، حتى مر به{[22223]} على دار فرعون ، فالتقطه الجواري فاحتملنه ، فذهبن به إلى امرأة فرعون ، ولا يدرين ما فيه ، وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها . فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه ، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه ، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها ؛ ولهذا قال { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [ وَحَزَنًا ] } {[22224]} .
عطف على جملة { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا } [ القصص : 5 ] ، إذ الكل من أجزاء النبأ . وتتضمن هذه الجملة تفصيلاً لمجمل قوله { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا } ، فإن الإرادة لما تعلقت بإنقاذ بني إسرائيل من الذل خلق الله المنقذ لهم .
والوحي هنا وحي إلهام يوجد عنده من انشراح الصدر ما يحقق عندها أنه خاطر من الواردات الإلهية . فإن الإلهام الصادق يعرض للصالحين فيوقع في نفوسهم يقيناً ينبعثون به إلى عمل ما ألهموا إليه . وقد يكون هذا الوحي برؤيا صادقة رأتها . وأم موسى لم يعرف اسمها في كتب اليهود ، وذكر المفسرون لها أسماء لا يوثق بصحتها .
وقوله { أن أرضعيه } تفسير ل { أوحينا } . والأمر بإرضاعه يؤذن بجمل طويت وهي أن الله لما أراد ذلك قدّر أن يكون مظهر ما أراده هو الجنين الذي في بطن أم موسى ووضعته أمه ، وخافت عليه اعتداء أنصار فرعون على وليدها وتحيرت في أمرها فألهمت أو أريت ما قصه الله هنا وفي مواضع أخرى .
والإرضاع الذي أمرت به يتضمن أن : أخفيه مدة ترضعه فيها فإذا خفت عليه أن يعرف خبره فألقيه في اليمّ .
وإنما أمرها الله بإرضاعه لتقوى بُنيته بلبان أمه فإنه أسعد بالطفل في أول عمره من لبان غيرها ، وليكون له من الرضاعة الأخيرة قبل إلقائه في اليمّ قوت يشد بنيته فيما بين قذفه في اليم وبين التقاط آل فرعون إياه وإيصاله إلى بيت فرعون وابتغاء المراضع ودلالة أخته إياهم على أمه إلى أن أُحضرت لإرضاعه فأرجع إليها بعد أن فارقها بعض يوم . وحكت كتب اليهود أن أم موسى خبأته ثلاثة أشهر ثم خافت أن يفشو أمره فوضعته في سفط مقيَّر وقذفته في النهر . وقد بشرها الله بما يزيل همها بأنه راده إليها وزاد على ذلك بما بشرها بما سيكون له من مقام كريم في الدنيا والآخرة بأنه { من المرسلين } .
والظاهر أن هذا الوحي إليها كان عند ولادته وأنها أمرت بأن تلقيه في اليم عندما ترى دلائل المخافة من جواسيس فرعون وذلك ليكون إلقاؤه في اليم عند الضرورة دفعاً للضر المحقق بالضر المشكوك فيه ثم ألقي في يقينها بأنه لا بأس عليه .
و { اليم } : البحر وهو هنا نهر النيل الذي كان يشق مدينة فرعون حيث منازل بني إسرائيل . واليم في كلام العرب مرادف البحر ، والبحر في كلامهم يطلق على الماء العظيم المستبحر ، فالنهر العظيم يسمى بحراً قال تعالى { وما يستوي البحران هذا عذاب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } [ فاطر : 12 ] ، فإن اليم من الأنهار .
وقد كانت هذه الآية مثالاً من أمثلة دقائق الإعجاز القرآني فذكر عياض في « الشفاء » والقرطبي في « التفسير » يزيد أحدهما على الآخر عن الأصمعي : أنه سمع جارية أعرابية تنشد :
أستغفر الله لأمري كله *** قتلت إنساناً بغير حله
مثل غزال ناعماً في دله *** انتصف الليل ولم أُصَلِّه
وهي تريد التورية بالقرآن . فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك يريد ما أبلغك ( وكانوا يسمون البلاغة فصاحة ) فقالت له : أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } فجمع في آية واحدة خبرين ، وأمرين ، ونهيين ، وبشارتين .
فالخبران هما { وأوحينا إلى أم موسى } وقوله { فإذا خفت عليه } لأنه يشعر بأنها ستخاف عليه .
والأمران هما : { أرضعيه } و ( ألقيه ) .
والنهيان : { ولا تخافي } و { لا تحزني } .
والبشارتان : { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } .
والخوف : توقع أمر مكروه ، والحزن : حالة نفسية تنشأ من حادث مكروه للنفس كفوات أمر محبوب ، أو فقد حبيب ، أو بعده ، أو نحو ذلك .
والمعنى : لا تخافي عليه الهلاك من الإلقاء في اليم ، ولا تحزني على فراقه .
والنهي عن الخوف وعن الحزن نهي عن سببيهما وهما توقع المكروه والتفكر في وحشة الفراق .
وجملة { إنا رادوه إليك } في موقع العلة للنهيين لأن ضمان رده إليها يقتضي أنه لا يهلك وأنها لا تشتاق إليه بطول المغيب . وأما قوله { وجاعلوه من المرسلين } فإدخال للمسرة عليها .