التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (107)

ثم بين - سبحانه - حال الذين ابيضت وجوههم وحسنت عاقبتهم فقال : { وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ } ببركة إيمانهم وعملهم الصالح { فَفِي رَحْمَةِ الله } أى ففى جنته . والتعبير عن الجنة بالرحمة من باب التعبير بالحال عن المحل فتكون الظرفية حقيقة . وإذا أريد برحمة الله ثوابه وجزاؤه تكون الظرفية مجازية .

وفى التعبير عن الجنة بالرحمة إشعار بأن دخولها إنما هو بمحض فضل الله - تعالى - فهو - سبحانه - المالك لكل شىء ، والخالق لكل شىء .

وقوله { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } بيان لما خصهم الله - تعالى - من خلود فى هذا النعيم الذى لا يحد بحد ، ولا يرسم برسم ، ولا تبلغ العقول مداه . أى هم فى الرحمة باقون دائمون فقد أعطاهم الله - تعالى - عطاء غير مجذوذ .

وقد بدأ - سبحانه - كلامه عن الفريقين بالذين ابيضت وجوههم ثم قدم الحديث عن حال الذين اسودت وجوههم على الذين ابيضت وجوههم ، ليكون ابتداء الكلام واختتامه عن هؤلاء السعداء بما يسر القلب ويشرح الصدر ويغرى الناس بالتمسك بعرى الإيمان وبالإكثار من العمل الصالح الذي يوصلهم إلى رحمة الله ورضاه .

ووصف - سبحانه - الذين ابيضت وجوههم بأنهم خالدون فى رحمته ، ولم يصف الذين اسودت وجوههم بالخلود فى العذاب للتصريح فى غير هذا الموضع بخلودهم فى هذا العذاب كما فى قوله - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أولئك هُمْ شَرُّ البرية } وللإشعار بأن باب رحمته - سبحانه - مفتوح أمام هؤلاء الضالين فعليهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، وأن يقلعوا عن الكفر إلى الإيمان والعمل الصالح حتى ينجوا من عذاب الله وسخطه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (107)

يعني : الجنة ، ماكثون فيها أبدا لا يبغون عنها حوَلا . وقد قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن رَبِيع - وهو ابن صَبِيح{[5468]} - وحَمَّاد بن سلمة ، عن أبي غالب قال : رأى أبو أمامة رءوسا منصوبة على دَرَج دمشق ، فقال أبو أمامة : كلاب النار ، شر قتلى تحت أديم السماء ، خَيْرُ قتلى من قتلوه ، ثم قرأ : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } إلى آخر الآية . قلت لأبي أمامة : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا - حتى عَدّ سبعا - ما حَدّثتكموه .

ثم قال : هذا حديث حسن : وقد رواه ابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة عن أبي غالب ، وأخرجه أحمد في مسنده ، عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن أبي غالب ، بنحوه{[5469]} . وقد روى ابن مَرْدُويَه عند تفسير هذه الآية ، عن أبي ذر ، حديثًا مطولا غريبا عجيبا جدا .


[5468]:في ر: "صبح".
[5469]:سنن الترمذي برقم (3000) وسنن ابن ماجة برقم (176).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (107)

قدّم عند وصف اليوم ذكر البياض ، الَّذي هو شعار أهل النَّعيم ، تشريفاً لذلك اليوم بأنَّه يوم ظهور رحمة الله ونعمته ، ولأنّ رحمة الله سبقت غضبه ، ولأنّ في ذكر سمة أهل النَّعيم ، عقب وعيد بالعذاب ، حسرةً عليهم ، إذ يعلم السَّامع أنّ لهم عذاباً عظيماً في يوم فيه نعيم عظيم ، ثُمّ قُدّم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلاً بمساءتهم .

وقوله { أكفرتم } مقول قول محذوف يحذف مثله في الكلام لظهوره : لأنّ الاستفهام لا يصدر إلاّ من مستفهم ، وذلك القول هو جواب أمَّا ، ولذلك لم تدحل الفاء على { أكفرتم } ليظهر أن ليس هو الجواب وأن الجواب حذف برمَّته .

وقائل هذا القول مجهول ، إذ لم يتقدّم ما يدّل عليه ، فيحتمل أنّ ذلك يقوله أهل المحشر لهم وهم الَّذين عرفوهم في الدّنيا مؤمنين ، ثمّ رأوهم وعليهم سمة الكفر ، كما ورد في حديث الحوض « فليَرِدنّ عليّ أقوام أعرفهم ثمّ يُخْتلجُون دوني ، فأقولُ : أصَيْحَابي ، فيقال : إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك » والمستفهِم سلَفُهم من قومهم أو رسولهم ، فالاستفهام على حقيقته مع كنايته عن معنى التعجّب .

ويحتمل أنَّه يقوله تعالى لهم ، فالاستفهام مجاز عن الإنكار والتغليط . ثمّ إن كان المراد بالَّذين اسودّت وجوههم أهل الكتاب ، فمعنى كفرهم بعدَ إيمانهم تغييرهم شريعة أنبيائهم وكتمانهم ما كتموه فيها ، أو كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بموسى وعيسى ، كما تقدّم في قوله

{ إنّ الَّذين كفروا بعد إيمانهم } [ آل عمران : 90 ] وهذا هو المحمل البيّن ، وسياق الكلام ولفظه يقتضيه ، فإنَّه مسَوق لوعيد أولئك . ووقعت تأويلات من المسلمين وقعوا بها فيما حذّرهم منه القرآن ، فتفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات : الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " مثل أهل الردة الذين ماتوا على ذلك ، فمعنى الكفر بعد الإيمان حينئذٍ ظاهر ، وعلى هذا المعنى تأوّل الآية مالك بن أنس فيما روى عنه ابن القاسم وهو في ثالثة المسائل من سماعه من كتاب المرتدّين والمحاربين من العتبية قال : « ما آية في كتاب الله أشدّ على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية » { يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه } قال مالك : إنَّما هذه لأهل القبلة . يعني أنَّها ليست للَّذين تفرّقوا واختلفوا من الأمم قبلنا بدليل قوله { أكفرتم بعد إيمانكم } ورواه أبو غسّان مالك الهروي عن مالك عن ابن عمرَ ، ورُوي مثل هذا عن ابن عبّاس ، وعلى هذا الوجه فالمراد الَّذين أحدثوا بعد إيمانهم كفرا بالردّة أو بشنيع الأقوال الَّتي تفضي إلى الكفر ونقض الشَّريعة ، مثل الغرابية من الشيعة الَّذين قالوا بأنّ النبوءة لعلي ، ومثل غلاة الإسماعلية أتباع حمزة بن عليّ ، وأتباع الحاكم العُبيدي ، بخلاف من لم تبلغ به مقالته إلى الكفر تصريحاً ولا لزوماً بيّنا مثل الخوارج والقدرية كما هو مفصّل في كتب الفقه والكلام في حكم المتأوّلين ومن يؤول قولهم إلى لوازم سيّئة .

وذوق العذاب مجاز للإحساس وهو مجاز مشهور علاقته التقييد .