ثم نبه - سبحانه - هؤلاء الكافرين إلى ما سيكونون عليه من حال سيئة يوم القيامة إذا استمروا فى كفرهم فقال : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } .
قال الفخر الرازى : وجه النظم هو أنه - تعالى - بين أن فى الآخرة لا يجرى على أحد ظلم ، وأنه - تعالى - بجازى المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه . فبين فى هذه الآية - وهو قوله - تعالى - { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } أن ذلك يجرى بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسئ أبلغ . والتبكيت له أعظم . وحسرته أشد . ويكون سرور من قبل من الرسول وأظهر الطاعة أعظم . ويكون هذا وعيداً للكفار الذين قال الله فيهم { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ووعداً للمطيعين الذين قال فيهم { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } .
والفاء فى قوله " فكيف " للإِفصاح عن شرط مقدر نشأ من الكلام السابق وكيف فى محل رفع خبر لمبتدأ محذوف .
والتقدير : إذا أيقنت بما أخبرناك به أيها الرسول الكريم أو أيها السامع من أن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيما فكيف سيكون حال هؤلاء الكفرة إذا ما جئنا من كل أمة من الأمم السابقة بشهيد يشهد عليهم بما ارتكبوه من سوء الصنيع وقبح الأعمال ، وهذا الشهيد هو نبيهم الذى أرسله الله لهدياتهم ، وجئنا بك يا محمد شهيداً على هؤلاء الذين بعثك الله لإِخراجهم من الظلمات إلى النور فكذبوك واستحبوا العمى على الهدى .
لا شك أن حالهم سيكون أسوأ حال ، ومصيرهم سيكون أقبح مصير ، بسبب كفرهم وبخلهم وريائهم واتباعهم للهوى والشيطان .
ومن العلماء من يرى أن المراد بقوله - تعالى - { وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } أى جئنا بك يا محمد شهيداً على هؤلاء الأنبياء بأنهم قد بلغوا رسالة الله ولم يقصروا فى نصيحة أقوامهم .
والذى نراه أولى هو أن شهادة النبى صلى الله عليه وسلم تشمل كل ذلك أى تشمل شهادته على قومه بأنه قد بلغهم رسالة الله ، وشهادته للأنبياء السابقين بأنهم نصحوا لأقوامهم وبلغوا رسالة ربهم ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد أعطاه الله تعالى - من المنزلة العالية ما لم يعط أحدا سواه .
روى الشيخان وغيرهما " عن عبد الله بن مسعود قال : قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ على شيئا من القرآن . فقلت يا رسول الله أأقرأ عليك وعليك أنزل قال : نعم . إنى أحب أن اسمعه من غيرى . فقرأت عليه سورة النساء : حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } الآية فقال : حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان " .
وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } يقول تعالى - مخبرًا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه : فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين{[7515]} يجيء من كل أمة بشهيد - يعني الأنبياء عليهم السلام ؟ كما قال تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ]{[7516]} } [ الزمر : 69 ] وقال تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ]{[7517]} } [ النحل : 89 ] .
قال البخاري : حدثنا محمد بن يُوسُفَ ، حدثنا سفيانُ ، عن الأعْمَشِ ، عن إبراهيمَ ، عن عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " اقرأ علي " قلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أُنزلَ ؟ قال : " نعم ، إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأت سورة النساء ، حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } قال : " حسبك الآن " فإذا عيناه تَذْرِفَان .
ورواه هو ومسلم أيضًا من حديث الأعمش ، به{[7518]} وقد رُوي من طرق متعددة عن ابن مسعود ، فهو مقطوع به عنه . ورواه أحمد من طريق أبي حيان ، وأبي رَزِين ، عنه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو{[7519]} بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا الصَّلْتُ بنُ مَسْعُود الجَحْدَري ، حدثنا فُضَيْلُ بن سُلَيْمَانَ ، حدثنا يونُس بنُ محمد بن فضَالَة الأنصاري ، عن أبيه قال - وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظَفَر ، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم ، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ ، فأتى على هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب{[7520]} لحياه وجنباه ، فقال : " يا رب هذا شهدتُ على من أنا بين ظهريه ، فكيف بمن لم أره ؟ " {[7521]} .
وقال ابن جرير : حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، عن المسعودي ، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله - هو ابن مسعود - { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شهيد عليهم ما دمت فيهم ، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم " .
وأما ما ذكره أبو عبد الله القُرْطُبي في " التذكرة " {[7522]} حيث قال : باب{[7523]} ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته : قال : أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا رجل من الأنصار ، عن المِنْهَال بنِ عمرٍو ، حدثه أنه سمع سعيد بن المُسَيَّبِ يقول : ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غُدْوة وعَشيّة ، فيعرفهم بأسمائهم{[7524]} وأعمالهم ، فلذلك يشهد عليهم ، يقول الله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } فإنه أثر ، وفيه انقطاع ، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم ، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه . وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده : [ قد تقدم ]{[7525]} أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس ، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجُمُعة . قال : ولا تعارض ، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم ، ويوم الجمعة مع الأنبياء ، عليهم السلام .
الفاء يجوز أن تكون فاء فصيحة تدلّ على شرط مقدّر نشأ عن الوعيد في قوله : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } [ النساء : 37 ] وقوله : { فساء قريناً } [ النساء : 38 ] ؛ وعن التوبيخ في قوله : { وماذا عليهم } [ النساء : 39 ] وعن الوعد في قوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } [ النساء : 40 ] الآية ، والتقدير : إذا أيقنت بذلك فكيفَ حال كلّ أولئك إذا جاء الشهداء وظهر موجَب الشهادة على العمل الصالِح وعلى العمل السيّىء ، وعلى هذا فليس ضميرُ ( بكَ ) إضماراً في مقام الإظهار ، ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على قوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } [ النساء : 40 ] ، أي يتفرّع عن ذلك سؤال عن حال الناس إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد ؛ فالناسُ بين مستبشر ومتحسّر ، وعلى هذا فضمير { بك } واقع موقع الاسم الظاهر لأنّ مقتضَى هذا أن يكون الكلام مسوقاً لجميع الأمّة ، فيقتضي أن يقال : وجئنا بالرَّسُول عليهم شهيداً ، فعُدل إلى الخطاب تشريفاً للرسول صلى الله عليه وسلم بعزّ الحُضور والإقبال عليه .
والحالة التي دلّ عليها الاستفهام المستعمل في التعجيب تؤذن بحالة مهولة للمشركين وتنادي على حيرتهم ومحاولتهم التملّص من العقاب بسلوك طريق إنكار أن يكونوا أنذروا ممّا دلّ عليه مجيء شهيد عليهم ، ولذلك حذف المبتدأ المستفهم عنه ويقدّر بنحو : كيف أولئك ، أو كيف المَشْهَد ، ولا يقدّر بكيف حالهم خاصّة ، إذ هي أحوال كثيرة ما منها إلاّ يزيده حالُ ضدّه وضوحاً ، فالناجي يزداد سروراً بمشاهدة حال ضدّه ، والموبق يزداد تحسّرا بمشاهدة حال ضدّه ، والكلّ يقوى يقينه بما حصل له بشهادة الصادقين له أو عليه ، ولذلك لمّا ذكر الشهيد لم يذكر معه مُتعلِّقه بعلَى أو اللام : ليعمّ الأمرين . والاستفهام مستعمل في لازم معناه من التعجيب ، وقد تقدّم نظيره عند قوله تعالى : { فكيف إذا جمعناهم } في سورة آل عمران ( 25 ) .
( وإذا ) ظرف للمستقبل مضاف إلى جملة { جئنا } أي زمان إتياننا بشهيد . ومضمون الجملة معلوم من آيات أخرى تقدّم نزولها مثلُ آية سورة النحل ( 89 ) { ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } فلذلك صلحت لأن يتعرّف اسم الزَّمان بإضافته إلى تلك الجملة ، والظرف معمول ل ( كيف ) لما فيها من معنى الفعل وهو معنى التعجيب ، كما انتصب بمعنى التلهّف في قول أبي الطمْحان :
وقبْل غدٍ يَا لهفَ قلبي من غَدٍ *** إذا رَاح أصحابي ولستُ برائح
والمجروران في قوله : { من كل أمة } وقوله : { بشهيد } يتعلّقان ب ( جئنا ) . وقد تقدّم الكلام مختصراً على نظيره في قوله تعالى : { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } [ آل عمران : 25 ] .
وشهيد كلّ أمّة هو رسولها ، بقرينة قوله : { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } .
و { هؤلاء } إشارة إلى الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لحضورهم في ذهن السامع عند سماعه اسم الإشارة ، وأصل الإشارة يكون إلى مشاهد في الوجود أو منزّل منزلتَه ، وقد اصطلح القرآن على إطلاق إشارة ( هؤلاء ) مراداً بها المشركون ، وهذا معنى ألهمنا إليه ، استقريْناه فكان مطابقاً .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } [ النساء : 37 ] وهم المشركون والمنافقون ، لأنّ تقدّم ذكرهم يجعلهم كالحاضرين فيشار إليهم ، لأنّهم لكثرة توبيخهم ومجادلتهم صاروا كالمعيّنين عند المسلمين . ومن أضعف الاحتمالات أن يكون { هؤلاء } إشارة إلى الشهداء ، الدالّ عليهم قوله : { كل أمةٍ بشهيد } وأن ورد في « الصحيح » حديث يناسبه في شهادة نوح على قومه وأنّهم يكذّبونه فَيشهد محمّد صلى الله عليه وسلم بصِدقه ، إذ ليس يلزم أن يكون ذلك المقصودَ من هذه الآية .
وذُكر متعلّق ( شهيدا ) الثاني مجروراً بعلى لتهديد الكافرين بأنّ الشهادة تكون عليهم ، لأنّهم المقصود من اسم الإشارة .
وفي « صحيح البخاري » : أنّ عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " اقرأ عليّ القرآن ، قلت : أقْرَأهُ عليك وعليكَ أنْزِل ، قال : إني أحِبّ أنْ أسْمَعه من غيري " فقرأت عليه سورة النساء ، حتّى إذا بلغتُ { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } ، قال : { أمسِك } فإذا عينَاه تذرفان . وكما قلت : إنه أوجز في التعبير عن تلك الحال في لفظ كيف فكذلك أقول هنا : لا فِعل أجمع دلالة على مجموع الشعور عند هذه الحالة من بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه دلالة على شعور مجتمععٍ فيه دلائلُ عظيمة : وهي المسرّة بتشريف الله إيّاه في ذلك المشهد العظيم ، وتصديقِ المؤمنين إيّاه في التبليغ ، ورؤيةِ الخيرات التي أنجزت لهم بواسطته ، والأسفِ على ما لحق بقية أمّته من العذاب على تكذيبه ، ومشاهدةِ ندمهم على معصيته ، والبكاء ترجمانُ رحمةٍ ومسرّة وأسف وبهجة .