التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (31)

ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء ثالثا إلى بنى آدم أمرهم فيه بالتمتع بالحلال ، وبزينة الله التي أخرجها لعباده بدون إسراف أو تبذير فقال - تعالى - : { يابني ءَادَمَ . .

المعنى : عليكم يا بنى آدم أن تتجملوا بما يستر عورتكم ، وأن تتحلوا بلباس زينتكم كلما صليتم أو طفتم ، واحذروا أن تطوفوا بالبيت الحرام وأنتم عرايا .

قال القرطبى : " يا بنى آدم هو خطاب لجميع العالم ، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا ، فإنه عام في كل مسجد للصلاة ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " .

وقال ابن عباس : " كان بعض العرب يطوفون بالبيت عراة ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل . يقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها " . فأنزل الله - تعالى - : { يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .

ثم أمرهم - سبحانه - أن يتمتعوا بالطيبات بدون إسراف أو تقتير فقال : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } .

أى : كلوا من المآكل الطيبة ، واشربوا المشارب الحلال ولا تسرفوا لا في زينتكم ولا في مأكلكم أو مشربكم . لأنه - سبحانه - يكره المسرفين .

قال الإمام ابن كثير : " قال بعض السلف : جمع الله الطب في نصف آية في قوله : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } " وقال البخارى : قال ابن عباس : " كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة " .

وقد كان السلف الصالح يقفون بين يدى الله في عبادتهم وهم في أكمل زينة ، فهذا - مثلا - الإمام الحسن بن على ، كان إذا قام إلى الصلاة لبس أحسن ثيابه فقيل له ؛ يابن بنت رسول الله لم تلبس أجمل ثيابك . فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، فأنا أتجمل لربى ، لأنه هو القائل : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .

وقال الكلبى : " كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتا ولا يأكلون لحما ولا دسما يعظمون بذلك حجهم ، فهم المسلمون أن يفعلوا كفعلهم فأنزل - تعالى - : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (31)

هذه الآية الكريمة ردٌّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عُراة ، كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير{[11671]} - واللفظ له - من حديث شعبة ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مسلم البَطِين ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال والنساء : الرجال بالنهار ، والنساء بالليل . وكانت المرأة تقول :

اليومَ يبدُو بعضُه أو كُلّه *** وما بَدَا مِنْه فلا أحِلّهُ

فقال الله تعالى : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ }{[11672]}

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله [ تعالى ]{[11673]} { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } الآية ، قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة - والزينة : اللباس ، وهو ما يواري السوأة ، وما سوى ذلك من جَيّد البزِّ والمتاع - فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد .

وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النَّخعي ، وسعيد بن جُبَيْر ، وقتادة ، والسُّدِّي ، والضحاك ، ومالك عن الزهري ، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها : أنها أنزلت في طوائف المشركين بالبيت عراة .

وقد روى الحافظ بن مَرْدُويه ، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي ، عن قتادة ، عن أنس مرفوعا ؛ أنها أنزلت{[11674]} في الصلاة في النعال . ولكن في صحته نظر{[11675]} والله أعلم .

ولهذه الآية ، وما ورد في معناها من السنة ، يستحب التجمل عند الصلاة ، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد ، والطيب لأنه من الزينة ، والسواك لأنه من تمام ذلك ، ومن أفضل الثياب{[11676]} البياض ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا علي بن عاصم ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البسوا من ثيابكم البياض ، فإنها من خير ثيابكم ، وكَفِّنوا فيها موتاكم ، وإن خير أكحالكم الإثْمِد ، فإنه يجلو البصر ، وينبت الشعر " .

هذا حديث جيد الإسناد ، رجاله{[11677]} على شرط مسلم . ورواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيم ، به{[11678]} وقال الترمذي : حسن صحيح .

وللإمام أحمد أيضا ، وأهل السنن بإسناد جيد ، عن سَمُرَة بن جُنْدَب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالثياب البياض فالبسوها ؛ فإنها أطهر وأطيب ، وكفنوا فيها موتاكم " {[11679]}

وروى الطبراني بسند{[11680]} صحيح ، عن قتادة ، عن محمد بن سيرين : أن تميما الداري اشترى رداءً بألف ، فكان يصلي فيه .

وقوله تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] }{[11681]} الآية . قال بعض السلف : جمع الله الطب كله في نصف آية : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا }

وقال البخاري : قال ابن عباس : كل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرَف ومَخِيلة .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثَوْر ، عن مَعْمَر ، عن

ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أحل الله الأكل والشرب ، ما لم يكن سرَفًا أو مَخِيلة . إسناده صحيح .

وقال الإمام أحمد : حدثنا بَهْز ، حدثنا هَمّام ، عن قتادة ، عن عمرو بن شُعَيْب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا ، في غير مَخِيلة ولا سرَف ، فإن الله يحب أن يرى{[11682]} نعمته على عبده " {[11683]}

ورواه النسائي وابن ماجه ، من حديث قتادة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخِيلة " {[11684]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا سليمان بن سليم الكِناني ، حدثنا يحيى بن جابر الطائي{[11685]} سمعت المقدام بن معد يكرب الكندي{[11686]} قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه ، حَسْبُ ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلبه ، فإن كان فاعلا لا محالة ، فثلث طعامٌ ، وثلث شرابٌ ، وثلث لنفسه " .

ورواه النسائي والترمذي ، من طرق ، عن يحيى بن جابر ، به{[11687]} وقال الترمذي : حسن - وفي نسخة : حسن صحيح .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا سُوَيْد بن عبد العزيز{[11688]} حدثنا بَقِيَّة ، عن يوسف ابن أبي كثير ، عن نوح بن ذَكْوان ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من السَّرف أن تأكل كل ما اشتهيت " .

ورواه الدارقطني في الأفراد ، وقال : هذا حديث غريب تفرد به بقية . {[11689]}

وقال السُّدِّي : كان الذين يطوفون بالبيت عراة ، يحرمون عليهم الودَكَ ما أقاموا في الموسم ؛ فقال الله [ تعالى ]{[11690]} لهم : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] }{[11691]} يقول : لا تسرفوا في التحريم .

وقال مجاهد : أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَلا تُسْرِفُوا } يقول : ولا تأكلوا حرامًا ، ذلك الإسراف .

وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قوله : { وَكُلُوا{[11692]} وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } في الطعام والشراب .

وقال ابن جرير : وقوله : { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } يقول الله : إن الله [ تعالى ]{[11693]} لا يحب المتعدين{[11694]} حَدَّه في حلال أو حرام ، الغالين فيما أحل أو حَرّم ، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال ، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل ، ويحرم ما حرم ، وذلك العدل الذي أمر به .


[11671]:في أ: "ابن ماجة".
[11672]:صحيح مسلم برقم (3028) وسنن النسائي (5/233) وتفسير الطبري (12/390).
[11673]:زيادة من أ.
[11674]:في أ: "نزلت".
[11675]:ورواه العقيلي في الضعفاء الكبير (3/143) من طريق عباد بن جويرية، عن الأوزاعي، عن قتادة به. وعباد بن جويرية قال فيه الإمام أحمد: "كذاب أفاك".ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (14/287) من طريق يعقوب، الدعاء عن يحيى بن عبد الله الدمشقي، عن الأوزاعي به.ويعقوب وشيخه لا يعرفان.
[11676]:في د، ك، م، أ: "اللباس".
[11677]:في م: "رجاله كلهم ثقات".
[11678]:المسند (1/247) وسنن أبي داود برقم (4061) وسنن الترمذي برقم (944) وسنن ابن ماجة برقم (1472).
[11679]:المسند (5/7) وسنن النسائي (8/205).
[11680]:في م: "بإسناد".
[11681]:زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
[11682]:في ك: "ترى".
[11683]:المسند (2/182).
[11684]:سنن النسائي (5/79) وسنن ابن ماجة برقم (3605).
[11685]:في أ: "الطائي قال".
[11686]:في ك: "العبدي".
[11687]:المسند (4/132) النسائي في السنن الكبرى برقم (6768) وسنن الترمذي برقم (2380).
[11688]:في جميع النسخ: "سويد بن عبد العزيز" وصوابه: "سويد بن سعيد" كما في مسند أبي يعلى وكتب الرجال.
[11689]:مسند أبي يعلى (5/154) وأطراف الغرائب والأفراد لابن القيسراني (ق72) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3352) من طريق سويد بن سعيد به. وقال البوصيري في الزوائد (3/95): "هذا إسناد ضعيف" وهو مسلسل بالعلل.
[11690]:زيادة من م.
[11691]:زيادة من ك، م، أ. وفي هـ "الآية".
[11692]:في م: "كلوا".
[11693]:زيادة من ك.
[11694]:في ك، م: "المعتدين".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (31)

إعادة النّداء في صدر هذه الجملة للاهتمام ، وتعريف المنادَى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدّم في قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } [ الأعراف : 26 ] .

وهذه الجملة تتنزّل ، من التي بَعدها ، وهي قوله : { قل من حرم زينة الله } [ الأعراف : 32 ] منزلة النّتيجة من الجدل ، فقدمت على الجدل فصارت غرضاً بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجّة على الدّعوى ، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها .

فالمقصد من قوله : { خذوا زينتكم } إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التّعرّي في الحجّ في أحوال خاصّة ، وعند مساجد معيّنة ، فقد أخرج مسلم عن ابن عبّاس ، قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول من يُعيرني تِطْوافاً تجعله على فرجها وتقول :

اليومَ يبدو بعضُه أو كلُّه *** وما بَدا منه فلا أُحِلُّه

وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير ، قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلاّ الحُمْس ، والحُمْس قريشٌ وما ولدتْ فكان غيرهم يطوفون عراة إلاّ أن يعطيهم الحُمْس ثياباً فيعطِي الرّجالُ الرّجالَ والنّساءُ النّساءَ ، وعنه : أنّهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عُراة . وروي أنّ الحُمْس كانوا يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلاّ في ثيابنا ولا يأكل إذا دَخل أرضنا إلاّ من طعامنا . فمن لم يكن له من العرب صديق بمكّة يعيره ثوباً ولا يجد من يستأجر به كان بين أحد أمرين إمّا أن يطوف بالبيت عُرياناً ، وإمّا أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسّه أحد وكان ذلك الثّوب يسمّى : اللَّقَى بفتح اللام قال شاعرهم :

كفى حزناً كَري عليه كأنّه *** لقى بين أيدي الطائفين حَرامُ

وفي « الكشاف » ، عن طاووس : كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضُرِب وانتُزِعَت منه لأنّهم قالوا : لا نعبد الله في ثياببٍ أذنَبْنا فيها ، وقد أبطله النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر أبا بكر رضي الله عنه ، عام حجّته سنة تسع ، أن ينادي في الموسم : " أنْ لا يحج بعد العام مُشرك ولا يطوفَ بالبيت عُريان " .

وعن السدي وابن عبّاس كان أهل الجاهليّة التزموا تحريمَ اللّم والودك في أيام الموسم ، ولا يأكلون من الطّعام إلاّ قُوتاً ، ولا يأكلون دَسماً ، ونسب في « الكشاف » ذلك إلى بني عامر ، وكان الحُمْس يقولون : لا ينبغي لأحد إذا دخل أرضَنا أن يأكل إلاّ من طعامنا ، وفي « تفسير الطبري » عن جابر بن زيد كانوا إذا حجوا حرّموا الشاة ولبنها وسمْنها . وفيه عن قتادة : أنّ الآية أرادت ما حرّموه على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي .

فالأمر في قوله : { خذوا زينتكم } للوجوب ، وفي قوله : { وكلوا واشربوا } للإباحه لبني آدم الماضين والحاضرين .

والمقصود من توجيه الأمر أو من حكايته إبطالُ التّحريم الذي جعله أهل الجاهليّة بأنهم نقضوا به ما تقرّر في أصل الفطرة ممّا أمر الله به بني آدم كلّهم ، وامتن به عليهم ، إذ خلق لهم ما في الأرض جميعاً . وهو شبيه بالأمر الوارد بعد الحَظر . فإنّ أصله إبطال التّحريم وهو الإباحة كقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] بعد قوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] وقد يعرض لما أبطل به التّحريم أن يكون واجباً . فقد ظهر من السّياق والسّباق في هذه الآيات أن كشف العورة من الفواحش ، فلا جرم يكون اللّباس في الحجّ منه واجبٌ ، وهو ما يستْر العورة ، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالاً لتحريمه ، وأمّا الأمر بالأكل والشّرب فهو للإباحة إبطالاً للتّحريم ، وليس يجب على أحد أكل اللّحم والدّسم .

وقوله : { عند كل مسجد } تعميم أي لا تخصّوا بعض المساجد بالتّعري مثل المسجد الحرام ومسجد مِنَى ، وقد تقدّم نظيره في قوله : { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 29 ] . وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشّرب على الأمر بأخذ الزّينة ممّا مضى آنفاً .

والإسراف تقدّم عند قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة النّساء ( 6 ) ، وهو تجاوز الحدّ المتعارف في الشّيء أي : ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللّحوم والدّسم لأنّ ذلك يعود بأضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة .

وقد قيل إنّ هذه الآية جمعت أصول حفظ الصّحة من جانب الغذاء فالنّهي عن السرف نهيُ إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاّحقة في قوله : { قل من حرم زينة الله } إلى قوله { والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، ولأنّ مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلّق به التّكليف ، ولكن يوكل إلى تدبير النّاس مصالحهم ، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقاً : { قل أمر ربي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] فإن ترك السّرف من معنى العدل .

وقوله : { إنه لا يحب المسرفين } تذييل ، وتقدّم القول في نظيره في سورة الأنعام .