ثم بين - سبحانه - لونا آخر من عنادهم وجحودهم فقال : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ } .
قال ابن كثير : وذلك أنهم حين امتنعوا عن الالتزام بأحكام التوراة ، وظهر منهم إباء عما جاء به موسى - عليه السلام - رفع الله على رءوسهم جبلا . ثم ألزموا فالتزموا ، وسجدوا ، وجعلوا ينظرون إلى ما فوق رءوسهم خشية أن يسقط عليهم . كما قال - تعالى - : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } الآية .
وقوله - تعالى - : { وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً } أى : وقلنا لهم على لسان أنبيائهم ادخلوا باب القرية التى أمرناكم بدخولها ساجدين لله ، أى : ادخلوها متواضعين خاضعين لله ، شاكرين له فضله وكرمه ، ولكنهم خالفوا ما أمرهم الله مخالفة تامة .
والمراد بالقرية التى أمرهم الله بدخول بابها ساجدين : قيل : هى بيت المقدس وقيل : إيلياء ، وقيل : أريحاء . وقد أبهمها الله - تعالى - لأنه لا يتعلق بذكرها مقصد أو غرض . ولم يرد فى السنة الصحيحة بيان لها .
وقد تحدث القرآن عن قصة أمرهم بدخول هذه القرية ساجدين بصورة أكثر تفصيلا فى سورتى البقرة والأعراف ، فقال - تعالى - فى سورة البقرة : { وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } وقوله : { وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت } أى : وقلنا لهم كذلك لا تتجاوزوا الحدود التى أمركم الله بالتزامها فى يوم السبت والتى منها : ألا تصطادوا فى هذا اليوم ، ولكنهم خالفوا أمر الله ، وتحايلوا على استحلال محارمه .
وقصة اعتداء اليهود على محارم الله فى يوم السبت قد جاء ذكرها فى كثير من آيات القرآن الكريم . ومن ذلك قوله - تعالى - فى سورة البقرة : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }
وقال - تعالى - فى سورة الأعراف : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } وقوله : { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } أى : وأخذنا منهم عهدا مؤكدا كل التأكيد ، وموثقاً كل التوثيق ، بأن يعملوا بما أمرهم الله به ، ويتركوا ما نهاهم عنه . ولكنهم نقضوا عهودهم ، وكفروا بآيات الله ، ونبذوها وراء ظهورهم .
وأضاف - سبحانه - الأخذ إلى ذاته الكريمة تقوية لأمر هذا الميثاق ، وتويها بشأنه وإشعاراً بوجوب الوفاء به ؛ لأن ما أخذه الله على عباده من مواثيق من واجبهم أن يفوا بها إذ هو - سبحانه - وحده سيجازيهم على نكثهم ونقضهم لعهودهم .
ووصف - سبحانه - الميثاق الذى أخذه عليهم بالغلظ أى : بالشدة والقوة ؛ لأنه كان قويا فى معناه وفى موضعه وفى كل ما اشتمل عليه من أوامر ونواه وأحكام ، ولأن نفوسهم كانت منغمسة فى الجحود والعناد فكان من المناسب لها تأكيد العهد وتوثيقه لعلها ترعوى عن ضلالها وفسوقها عن أمر الله .
ثم قال تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ } وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة ، وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى ، عليه السلام ، ورفع الله على رؤوسهم جبلا ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا ، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم ، كما قال تعالى : { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ]{[8546]} } [ الأعراف : 171 ] .
{ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } أي : فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل ، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجدا ، وهم يقولون : حطة . أي : اللهم حط{[8547]} عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه ، حتى تهنا في التيه أربعين سنة . فدخلوا يزحفون على أستاههم ، وهم يقولون : حنطة في شعرة .
{ وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ } أي : وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرّم الله عليهم ، ما دام مشروعًا لهم { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } أي : شديدا ، فخالفوا وعَصَوْا وتحيلوا على ارتكاب مناهي الله ، عز وجل ، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ]{[8548]} } [ الأعراف : 163 - 166 ] الآيات ، وسيأتي حديث صفوان بن عسال ، في سورة " سبحان " عند قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [ الإسراء : 101 ] ، وفيه : " وعليكم - خاصة يهود - أن لا تعدوا في السبت " .
{ الطور } الجبل اسم جنس ، هذا قول ، وقيل { الطور } : كل جبل غير منبت ، وبالشام جبل قد عرف بالطور ولزمه الاسم وهو طور سيناء ، وليس بالمرفوع على بني إسرائيل ، لأن رفع الجبل كان فيما يلي فحص التيه من جهة ديار مصر ، وهم ناهضون مع موسى عليه السلام ، وقد تقدم في سورة البقرة قصص رفع الطور ، وقوله { بميثاقهم } أي بسبب ميثاقهم أن يعطوه في أخذ الكتاب بقوة والعمل بما فيه ، وقوله تعالى : { وقلنا لهم ادخلوا الباب سجَّداً } هو باب بيت المقدس المعروف بباب حطة ، أمروا أن يتواضعوا شكراً لله تعالى على الفتح الذي منحهم في تلك البلاد ، وأن يدخلوا باب المدينة سجَّداً . وهذا نوع من سجدة الشكر التي قد فعلها كثير من العلماء ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان مالك بن أنس رحمه الله لا يراها . وقوله تعالى { وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } أي على الحيتان وفي سائر الأعمال وهؤلاء كانوا بأيلة من ساحل البحر فأمروا بالسكون عن كل شغل في يوم السبت فلم يفعلوا ، بل اصطادوا وتصرفوا ، وقد تقدم قصص ذلك ، وأخذ الله تعالى منهم «الميثاق الغليظ » هو على لسان موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء ، أي بأنهم يأخذون التوراة بقوة ، ويعملون بجميع ما فيها ، ويوصلونه إلى أبنائهم ويؤدون الأمانة فيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.