الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَرَفَعۡنَا فَوۡقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمۡ وَقُلۡنَا لَهُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُلۡنَا لَهُمۡ لَا تَعۡدُواْ فِي ٱلسَّبۡتِ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا} (154)

قوله تعالى : { فَوْقَهُمُ } : فيه وجهان ، الظاهرُ منهما أنه متعلق ب " رَفَعْنا " وأجاز أبو البقاء وجهاً ثانياً وهو أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ لأنه حالٌ من الطور . و " بميثاقهم " متعلقٌ أيضاً بالرفع ، والباءُ للسببية ، قالوا : وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه : بنقض ميثاقهم وقال الزمخشري : " بميثاقِهم " بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه " وظاهر هذه العبارة أنه لايُحتاج إلى حذف مضاف ، بل أقول : لا يجوز تقدير هذا المضاف لأنه يقتضي أنهم نقضوا الميثاق فرفَع اللَّهُ الطورَ عليم عقوبةً على فِعْلهم النقضَ ، والقصةُ تقتضي أنَّهم هَمُّوا بنقضِ الميثاق ، فرفعَ اللَّهُ عليهم الطور ، فخَافوا فلم يَنْقُضوه ، وإن كانوا قد نَقَضوه بعد ذلك . وقد صَرَّح أبو البقاء بأنهم نقضوا الميثاق ، وأنه تعالى رفع الطور عقوبةً لهم فقال : " تقديرُه : بنقض ميثاقهم ، والمعنى : ورَفَعْنا فوقَهم الطور تخويفاً ، لهم بسببِ نقضهم الميثاقَ " وفيه ذلك النظرُ المتقدم ، ولقائل أن يقول : لَمَّا هَمُّوا بنقضه وقاربوه صح أن يقال : رَفَعْنا الطور فوقهم لنقضهم الميثاق أي : لمقاربتم نقضَه ، لأنَّ ما قارب الشيء أُعْطِي حكمَه ، فتصِحُّ عبارةُ مَنْ قدَّر مضافاً كأبي البقاء وغيره . والميثاق مصدر مضاف لمفعوله . و " سُجَّداً " حالٌ من فاعل " ادخلوا " .

قوله : { لاَ تَعْدُواْ } قرأ الجمهور " تَعْدُوا " بسكون العين وتخفيفِ الدال مِنْ عَدا يعدو ، كغزا يغزو ، والأصل : " تَعْدُوُوا " بواوين : الأولى لام الكلمة والثانية ضمير الفاعلين ، فاستثقلت الضمة على لام الكلمة فَحُذِفَتْ ، فالتقى بِحَذْفِها ساكنان ، فحُذِفَ الأول وهو الواو الأولى ، وبقيت واو الفاعلين ، فوزنه : تَفْعَوا . وقرأ نافع بفتح العين وتشديد الدال ، إلا أن الرواة اختلفوا عن قالون عن نافع : فرووا عنه تارة بسكون العين سكوناً محضاً ، وتارة إخفاء فتحة العين . فأما قراءة نافع فاصلها : تَعْتَدوا ، ويدل على ذلك إجماعهم / على : { اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ } [ البقرة : 65 ] كونِه من الاعتداء وهو افتعالٌ من العدوان ، فأُريد إدغامُ تاء الافتعال في الدال فنُقِلَتْ حركتُها إلى العين وقُلبت دالاً وأدغمت . وهذه قراءةٌ واضحة . وأما ما يُروى عن قالون من السكون المحض فشيءٌ لا يراه النحويون لأنه جَمْعٌ بين ساكنين على غيرِ حَدِّهما . وأمَّا الاختلاسُ .

فهو قريب للإِتيان بحركة ما ، وإن كانت خفيَّةً ، إلا أنَّ الفتحةَ ضعيفةٌ في نفسِها فلا ينبغي أن تُخْفى لِتُزادَ ضعفاً ، ولذلك لم يُجزِ القراء رَوْمَها وقفاً لضعفِها . وقرأ الأعمش : " تَعْتَدُوا " بالأصل الذي أدغَمُه نافع .