ثم أمر - سبحانه - المؤمنين باعداد وسائل القوة التي بها يصلون إلى النصر ، وغلى بعث الرعب في قلوبهم أعدائهم . . فقال - عز وجل - : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ . . . } .
وقوله : { وَأَعِدُّواْ } معطوف على ما قبله ، وهو من الإِعداد بمعنى تهيئة الشئ للمستقبل ، والخطاب لكافة المؤمنين .
والرباط في الأصل مصدر ربط ، أي شد ، ويطلق ، بمعنى المربوط مطلقا ، وكثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله ، فالإِضافة إما باعتبار عموم المفهوم الأصلى ، أو بملاحظة كون الربط مشتركا بين معان آخر كملازمة الثغور ، والمواظبة على الأمر ، فإضافته لأحد معانيه للبيان .
قال صاحب الكشاف : والرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال - يقال نعم الربيط هذا ، لما يرتبط من الخيل .
والمعنى : عليكم - أيها المؤمنون - أن تعدوا لقتال أعدائكم ما تستطيعون إعداه من وسائل القولة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها .
وجاء - سبحانه - بلفظ { قُوَّةٍ } منكراً ، ليشمل كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان .
قال الجمل : وقوله { مِّن قُوَّةٍ } في محل نصب على الحال ، وفى صاحبها وجهان : أحدهما أنه الموصول . والثانى : أنه العائد عليه ، إذ التقدير ما استطعتموه حال كونه بعض القوة ، ويجوز أن تكون { مِن } لبيان الجنس .
وقوله : { وَمِن رِّبَاطِ الخيل } معطوف على ما قبله من عطف الخاص على العام .
أى : أعدوا لقتال أعدائكم ، ما أمكنكم من كل ما يتقوى به عليهم في الحرب ، من نحو : حصون وقلاع وسلاح . ومن رباط الخيل للغزو والجهاد في سبيل الله .
وخص رباط الخيل بالذكر من بين ما يتقوى به ، لمزيد فضلها وغنائها في الحرب ، ولأن الخيل كانت الأداة الرئيسية في القتال في العهد النبوى ، وقوله : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } بيان للمقصود من الأمر بإعداد ما يمكنهم إعداده من قوة .
وقوله : { تُرْهِبُونَ } من الرهبة وهى مخافة مع ترحز واضطراب .
والضمير المجرور - وهو قوله { بِهِ } - يعود إلى الإِعداد المأخوذ من قوله { وَأَعِدُّواْ } .
أى : أعدوا ما استطعتم من قوة ، حال كونكم مرهبين بهذا الإِعداد عدو الله وعدوكم ، من كل كافر ومشرك ومنحرف عن طريق الحق ، وعلى رأس هؤلاء جميعا ، كفار مكة الذين أخرجوكم من دياركم بغير حق ، ويهود المدينة الذين لم يتركوا وسيلة للإِضرار بكم إلا فعلوها .
وقوله { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } معطوف على ما قبله .
أى : ترهبون بهذا الإِ عداد أعداء معروفين لكم - كمشركى مكة ويهود المدينة ، وترهبون به أيضاً أعداء آخرين غيرهم أنتم لا تعرفونهم لأنهم يخفون عداوتهم لكم ، ولكن الله - تعالى - الذي لا يخفى عليه شئ يعلمهم ، وسيحبط أعمالهم .
وقد اختلف المفسرون في المراد بهؤلاء الأعداء الذين عبر الله عنهم بقوله لا تعلمونهم الله يعلمهم ، فمنهم من قال : المراد بهم بنو قريظة ومنهم من قال : المراد بهم أهل فارس والروم .
ورجح ابن جرير أن المراد بهم : كفار الجن . . لأن المؤمنين كانوا عالمين بمداراة بنى قريضة وفارس والروم لهم . . والمعنى ترهبون بذلك الإِعداد عدو الله وعدوكم من بنى آدم الذين علمتم عداوتهم ، وترهبون به جنسا آخر من غير بنى آدم لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم : الله يعلمهم دونكم ، لأن بنى آدم لا يرونهم .
ورجح الفخر الرازى أن المراد بهم المنافقون ، قال : لأن المنافقين من عادته أن يتربص ظهور الآفات ، ويحتال في إلقاء الإِفساد والتفريق بين المسلمين - بطرق قد لا تعرف ، فإذا شاهد كون المسلمين في غاية القوة خافهم وترك الأفعال المذمومة .
ولعل ما رجحه الفخر الرازى هو الأقرب إلى الصواب ، لأن عداوة المنافقين للمؤمنين كثيراً ما تكون خافية ، ويشهد لهذا قوله - تعالى - في آية أخرى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } ثم ختم - سبحانه الآية الكريمة بالدعوة إلى الإِنفاق في سبيله ، وبشر المنفقين بسحن الجزاء فقال : { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } .
أى : { وَمَا تُنفِقُواْ } - أيها المؤمنون - { مِن شَيْءٍ } قل أو أكثر هذا المنفق { فِي سَبِيلِ الله } أي في وجوه الخيرات التي من أجَلِّها الجهاد لإِعلاء كلمة الدين { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أى : يصل إليكم عوضه في الدنيا وأجره في الآخرة { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أى : لا تنقصون شيئاً من العوض أو الأجر .
قال : والتعبير بالظلم - مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يكون ترك ترتيبه عليها ظلما - لبيان كمال نزاهته - سبحانه - عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه - تعالى - من القبائح ، وإبراز الإِثابة في معرض الأمور الواجبة عليه - تعالى - .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
1- وجوب إعداد القوة الحربية للدفاع عن الدين وعن الوطن وعن كل ما يجب الدفاع عنه ، لأن أعداء الإِسلام إذا ما علموا أن أتباعه أقوياء هابوهم ، وخافوا بأسهم ، ولم يجرؤوا على مهاجمتهم .
قال القرطبى : وقوله - تعالى - { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ } . أمر الله المؤمنين بإعداد القوة للأعداء ، بعد أن أكد تقدمه التقوى . فإن الله - تعالى - لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم ، وبحفنة من تراب ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن أراد أن يبتلى بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ . .
وقال بعض العلماء : دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية ، اتقاء بأس العدو وهجومه ، ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية أيام حضاره الإِسلام ، كان الإِسلام عزيزاً ، عظيماً ، أبي الضيم ، قوي القنا ، جليل الجاه ، وفير السنا ، إذ نشر لواء سلطته على منبسط الأرض ، فقبض على ناصية الأقطار والأمصار .
أما اليوم فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة ، ومالوا إلى النعيم والترف ، فأهملوا فرضاً من فروض الكفاية ، فأصحبت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض ، ولذا تعانى اليوم من غصته ما تعانى .
وكيف لا يطمع العدو في بلاد الإِسلام ، وهو لا يرى فيها معامل للأسلحة ، وذخائر الحرب ، بل كلها مما يشترى من بلاط العدو ؟
أما آن لها أن تتنبه من غفلتها ، فتعد العدة التي أمر الله بها لأعدائه ، وتتلافى ما فرطت قبل أن يداهم العدو ما بقى منها بخيله ورجله . . ؟
إن القوة التي طلب الله من المؤمنين إعدادها لإرهاب الأعداء ، تتناول كل ما من شأنه أن يجعل المؤمنين أقوياء . كإعداد الجيوش المدربة ، والأسلحة المتنوعة التي تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة .
وما روى من تفسيره القوة - التي وردت في الآية - بالرمي ، فإنما هو على سبيل المثال ، ولأن الرمي كان في ذلك الوقت أقوى ما يتقوى به .
قال الفخر الرازى عند تفسيره للآية ، والمراد بالقوة هنا ما يكون سبباً لحصول القوة ، وذكروا فيه وجوها :
الأول : المراد من القوة أنواح الأسلحة .
الثانى : روى أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية على المنبر وقال : " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثاً .
الثالث : قال بعضهم : القوة هي الحصون .
الرابع : قال أصحاب المعانى : الأولى أن يقال : هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو ، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " القوة هى الرمي " لا ينفى كون غير الرمى معتبراً . كما أن قوله - صلى الله عليه وسلم - " الحج عرفه " " والندم توبة " لا ينفى اعتبار غيره . بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا هنا .
وهذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل ، والسلاح ، وتعليم الفروسية ، والرمي فريضة إلا أنه من فرض الكفايات .
إن رباط الخيل للجهاد في سبيل الله فضله عظيم ، وثوابه كبير فقد كانت الخيل هى خير ما عرف العرب من وسائل الانتقال في الحرب وأسرعها ، وما زالت الخيل لها قيمتها في بعض أنواع الحروب .
قال القرطبى ، فإن قيل : إن قوله { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ } كان يكفى ، فلماذا خص الخيل بالذكر ؟
قيل له : إن الخيل لما كانت أصل الحرب وأوزارها التي عقد الخير في نواصيها ، وهى أقوى القوة ، وأشد العدة ، وحصون الفرسان ، وبها يجال في الميدان ، لما كانت كذلك خصها بالذكر تشريفاً ، وأقسم بغبارها تكريماً ، فقال : { والعاديات ضَبْحاً } وقال الإِمام ابن العربى : وأما رباط الخيل هو فضل عظيم ومنزلة شريفة .
روى الأئمة عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
" الخيل ثلاثة ، لرجل ستر ، ولرجل أجر ، وعلى رجل وزر . فأما الذي هى عليه وزر رجل ربطها رياء وفخراً ونواء لأهل الإِسلام - أى : مناوأة ومعاداة - فهى عليه وزر " .
وأما الذي هى له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شئ إلا كتب الله له عدد ما أكلت حسنات . .
وروى البخارى ومسلم عن جابر بن عبد الله قال : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوى ناصية فرس بأصبعيه وهو يقول : " الخير معقود في نواصى الخيل إلى يوم القيامة " " .
4- أن المقصود من إعداد العدة في الإِسلام إنما هو إرهاب الأعداء حتى لا يفكروا في الاعتداء على المسلمين ، وحتى يعيش أتباع هذا الدين آمنين مطمئنين في ديارهم ، وحتى يستطيعوا أن يبلغوا رسالة الله إلى خلقه من الناس دون أن يخشوا أحداً سواه - عز وجل . .
وليس المقصود بأعداد العدة إرهاب المسالمين ، أو العدوان على الآمنين ، أو القهر والإِذلال للناس واستغلالهم فيما يغضب الله - تعالى - .
ولذلك وجدنا الآية صريحة في بيان المقصود من هذا الإِعداد ، وهو - كما عبرت عنه { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } .
وهناك آيات أخرى صريحة في بيان سبب مشروعيته القتال في الإِسلام ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } وقوله - تعالى - : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } والخلاصة : أن من تتبع آيات القرآن الواردة في القتال يجدها جميعها تقرر أن سبب القتال في الإِسم ينحصر في رد العدوان ، وحماية الدعوة الإِسلامية من التطاول عليها وتثبيت حرية العقيدة ، وتطهير الأرض من الظلم والطغيان .
5- وجوب الإِنفاق في سبيل الله ، ومن أشرف وجوه الإِنفاق في سبيل الله أن يبذل المسلم ما يستطيع بذله في الجهاد الذي هو ذروة سنام الإِسلام ، والذى ما تركه قوم إلا ذلوا . . وألقوا بأنفسهم في التهلكة . .
ولقد بشرت الآية الكريمة المنفقين في سبيل الله ، بأنه - سبحانه - سيجازيهم على إنفاقهم جزاء وافيا لا نقص معه ولا ظلم .
قال - تعالى - { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } وفى الحديث الشريف الذي رواه الترمذى عن أبى يحيى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف " .
ثم أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة ، فقال : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أي : مهما أمكنكم ، { مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ }
قال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وَهْب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي علي ثُمَامة بن شُفَيّ ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " {[13105]}
رواه مسلم ، عن هارون بن معروف ، وأبو داود عن سعيد بن منصور ، وابن ماجة عن يونس بن عبد الأعلى ، ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب ، به{[13106]}
ولهذا الحديث طرق أخر ، عن عقبة بن عامر ، منها ما رواه الترمذي ، من حديث صالح بن كَيْسان ، عن رجل ، عنه{[13107]}
وروى الإمام أحمد وأهل السنن ، عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارموا واركبوا ، وأن ترموا خير من أن تركبوا " {[13108]}
وقال الإمام مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل لثلاثة : لرجل أجْر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ؛ فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج - أو : روضة - فما أصابت في طيلها ذلك من المرج - أو : الروضة - كانت له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقي به ، كان ذلك حسنات له ؛ فهي لذلك الرجل أجر . ورجل ربطها تغنِّيًا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي له ستر ، ورجل ربطها فخرًا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر " . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال : " ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
رواه البخاري - وهذا لفظه - ومسلم ، كلاهما من حديث مالك{[13109]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، أخبرنا شريك ، عن الرُّكَيْن بن الربيع{[13110]} عن القاسم بن حسان ؛ عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن ، وفرس للشيطان ، وفرس للإنسان ، فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله ، فعلفه وروثه وبوله ، وذكر ما شاء الله . وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه ، وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها ، فهي ستر من فقر " {[13111]}
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل ، وذهب الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل من الرمي ، وقول الجمهور أقوى للحديث ، والله أعلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج وهشام{[13112]} قالا حدثنا ليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شماسة : أن معاوية بن حديج{[13113]} مر على أبي ذر ، وهو قائم عند فرس له ، فسأله ما تعالج من فرسك هذا ؟ فقال : إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته ! قال : وما دعاء بهيمة من البهائم ؟ قال : والذي نفسي بيده ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر فيقول : اللهم ، أنت خولتني عبدا من عبادك ، وجعلت رزقي بيده ، فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده{[13114]}
قال : وحدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الحميد بن جعفر ؛ حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن سُوَيْد بن قيس ؛ عن معاوية بن حديج{[13115]} ؛ عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر ، يدعو بدعوتين ، يقول : اللهم ، إنك خولتني من خولتني من بني آدم ، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه " أو " أحب أهله وماله إليه " .
رواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يحيى القطَّان ، به{[13116]}
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التّسْتُرِيّ ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا المطعم بن المقدام الصنعاني ، عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال لابن الحنظلية - يعني : سهلا - : حدَّثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وأهلها معانون عليها ، ومن ربط فرسًا في سبيل الله كانت النفقة عليه ، كالماد يده بالصدقة لا يقبضها " {[13117]}
والأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل كثيرة ، وفي صحيح البخاري ، عن عُرْوَة ابن أبي الجعد البارقي{[13118]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والمغنم " {[13119]}
وقوله : " ترهبون " أي : تخوفون{ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } أي : من الكفار{ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ } قال مجاهد : يعني : قريظة ، وقال السدي : فارس ، وقال سفيان الثوري : قال ابن يمان : هم الشياطين التي في الدور . وقد ورد حديث بمثل ذلك ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحِمْصِي ، حدثنا أبو حيوة - يعني : شريح بن يزيد المقرئ - حدثنا سعيد بن سنان ، عن ابن عريب - يعني : يزيد بن عبد الله بن عريب - عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في قوله : { وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ } قال : " هم الجن " {[13120]}
ورواه الطبراني ، عن إبراهيم بن دُحَيْم ؛ عن أبيه ، عن محمد بن شعيب ؛ عن سعيد بن سنان{[13121]} عن يزيد بن عبد الله بن عريب ، به ، وزاد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل " {[13122]}
وهذا الحديث منكر ، لا يصح إسناده ولا متنه .
وقال مقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المنافقون .
وهذا أشبه الأقوال ، ويشهد له قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [ التوبة : 101 ] .
وقوله : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ } أي : مهما أنفقتم في الجهاد ، فإنه يوفى إليكم على التمام{[13123]} والكمال ، ولهذا جاء في حديث{[13124]} رواه أبو داود : أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف{[13125]} كما تقدم في قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، حدثنا الأشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر ألا يتصدق إلا على أهل الإسلام ، حتى نزلت : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين . وهذا أيضًا غريب .
المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين ، والضمير في قوله { لهم } عائد على الذين ينبذ إليهم العهد ، أو على الذين لا يعجزون على تأويل من تأول ذلك في الدنيا ، ويحتمل أن يعيده على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت ثم استمرت الآية في الأمة عامة ، إذ الأمر قد توجه بحرب جميع الكفار وقال عكرمة مولى ابن عباس : «القوة » ذكور الخيل و «الرباط » إناثها ، وهذا قول ضعيف ، وقالت فرقة : القوة الرمي واحتجت بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي{[5433]} » ثلاثاً ، وقال السدي : القوة السلاح ، وذهب الطبري إلى عموم اللفظة ، وذكر عن مجاهد أنه رئي يتجهز وعنده جوالق{[5434]} فقال : هذا من القوة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصواب ، و { الخيل } والمركوب في الجملة والمحمول عليه من الحيوان والسلاح كله والملابس الباهتة والآلات والنفقات كلها داخلة في القوة ، وأمر المسلمون بإعداد ما استطاعوا من ذلك ، ولما كانت الخيل هي أصل الحروب وأوزارها والتي عقد الخير في نواصيها وهي أقوى القوة وحصون الفرسان خصها الله بالذكر تشريفاً على قوله { من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل }{[5435]} وعلى نحو قوله { فاكهة ونخل ورمان }{[5436]} وهذا كثير ، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً »{[5437]} هذا في البخاري وغيره ، وقال في صحيح مسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً » ، فذكرت التراب على جهة التحفي به إذ هو أعظم أجزاء الأرض مع دخوله في عموم الحديث الآخر ، ولما كانت السهام من أنجع ما ُيتعاطى في الحرب ، وأنكاه في العدو ، وأقربه تناولاً للأرواح ، خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر والتنبيه عليها ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد الثلاثة من المسلمين الجنة ، صانعة والذي يحتسب في صنعته والذي يرمي به »{[5438]} ، وقال عمرو بن عنبة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من رمى بسهم في سبيل الله أصاب العدو أو أخطأ فهو كعتق رقبة »{[5439]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ارموا واركبوا ، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا »{[5440]} و { رباط الخيل } جمع ربط ككلب وكلاب ، ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة ، ويجوز أن يكون الرباط مصدراً من ربط كصاح صياحاً ونحوه لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس{[5441]} ، وإن جعلناه مصدراً من رابط فكأن ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر له فترابط المؤمنون بعضهم بعضاً ، فإذا ربط كل واحد منهم فرساً لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط ، وذلك الذي حض في الآية عليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :
«من ارتبط فرساً في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها »{[5442]} ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة «من رُبُط » بضم الراء والباء وهو جمع رباط ككتاب وكُتُب ، كذا نصبه المفسرون وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر{[5443]} .
و{ ترهبون } معناه تفزعون وتخوفون ، والرهبة الخوف ، قال طفيل الغنوي : [ البسيط ]
ويلُ أم حيّ دفعتم في نحورهمُ*** بني كلاب غداة الرعب والرهب{[5444]}
ومنه راهب النصارى ، يقال رهب إذا خاف ، ف { ترهبون } معدى بالهمزة ، وقرأ الحسن ويعقوب «تُرَهّبون » بفتح الراء وشد الهاء معدى بالتضعيف ، ورويت عن أبي عمرو بن العلاء قال أبو حاتم : وزعم عمرو أن الحسن قرأ «يرهبون » بالياء من تحت وخففها ، فهو على هذا المعدى بالتضعيف ، وقرأ ابن عباس وعكرمة «تخزون به عدو الله » .
قال القاضي أبو محمد : ذكرها الطبري تفسيراً لا قراءة ، وأثبتها أبو عمرو الداني قراءة ، وقوله { عدو الله وعدوكم } ذكر الصفتين وإن كانت{[5445]} متقاربة إذ هي متغايرة المنحى ، وبذكرهما يتقوى الذم وتتضح وجوه بغضنا لهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «عدواً لله » بتنوين عدو وبلام في المكتوبة{[5446]} ، والمراد بهاتين الصفتين من قرب وصاقب{[5447]} من الكفار وكانت عداوته متحركة بعد ، ويجوز أن يراد بها جميع الكفار ويبين هذا من اختلافهم في قوله { وآخرين من دونهم } الآية ، قال مجاهد الإشارة بقوله { وآخرين } إلى قريظة ، وقال السدي : إلى أهل فارس ، وقال ابن زيد : الإشارة إلى المنافقين ، وقالت فرقة : الإشارة إلى الجن ، وقالت فرقة : هم كل عدو للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرد بهم من خلفهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الخلاف إنما ينبغي أن يترتب على ما يتوجه من المعنى في قوله { لا تعلمونهم } فإذا حملنا قوله { لا تعلمونهم } على عمومه ونفينا علم المؤمنين بهذه الفرقة المشار إليها جملة واحدة كان العلم بمعنى المعرفة لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد لم يثبت من الخلاف في قوله { آخرين } إلا قول من قال الإشارة إلى المنافقين وقول من قال : الإشارة إلى الجن ، وإذا جعلنا قوله { لا تعلمونهم } محاربين أو نحو هذا مما تفيد به نفي العلم عنهم حسنت الأقوال ، وكان العلم متعدياً إلى مفعولين .
قال القاضي أبو محمد : هذا الوجه أشبه عندي ، ورجح الطبري أن الإشارة إلى الجن وأسند في ذلك ما روي من أن صهيل الخيل ينفر الجن وأن الشيطان لا يدخل داراً فيها فرس الجهاد ونحو هذا ، وفيه على احتماله نظر ، وكان الأهم في هذه الآيات أن يبزر معناها في كل ما يقوي المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين هي النافعة للإسلام وأهله ورهبة الجن وفزعهم لا غناء له في ظهور الإسلام ، بل هو تابع لظهور الإسلام وهو أجنبي جداً والأولى أن يتأول المسلمين إذا ظهروا وعزوا هابهم من جاورهم من العدو المحارب لهم ، فإذا اتصلت حالهم تلك بمن بعد من الكفار داخلته الهيبة وإن لم يقصد المسلمون إرهابهم فأولئك هم الآخرون{[5448]} ، ويحسن أن يقدر قوله { لا تعلمونهم } بمعنى لا تعلمونهم فازعين راهبين ولا تظنون ذلك بهم ، والله تعالى يعلمهم بتلك الحالة ، ويحسن أيضاً أن تكون الإشارة إلى المنافقين على جهة الطعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كل من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية ، ولفزعهم ورهبتهم غناء كثير في ظهور الإسلام وعلوه ، وقوله { من دونهم } بمنزلة قولك دون أن يكون هؤلاء ف «دون » في كلام العرب و «من دون » يقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي هي فيها القول ، ومنه المثل : " وأمر دون عبيدة الوذم " {[5449]} تفضل تعالى بعدة المؤمنين على إنفاقهم في سبيل الله بأن النفقة لا بد أن توفى أي تجازى ويثاب عليها ، ولزوم هذا هو في الآخرة ، وقد يمكن أن يجازي الله تعالى بعض المؤمنين في الدنيا مجازاة مضافة إلى مجازاة الآخرة .