التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (54)

ثم حكى- سبحانه ما كان من بنى إسرائيل فقال : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } والمكر : التدبير المحكم . أو صرف غيرك عما يريده بحيلة . وهو مذموم إن تحرى به الفاعل الشر والقبيح كما فعل اليهود مع عيسى - عليه السلام - ومحمود أن تحرى به الفاعل الخير والجميل .

والمعنى : أن أولئك اليهود الذين أحسن عيسى منهم الكفر دبروا له القتل غيلة واتخذوا كل الوسائل لتنفيذ مآربهم الذميمة . فأحبط الله - تعالى - مكرهم ، وأبطل تدبيرهم بأن نجى نبيه عيسى - عليه السلام - من شرورهم { والله خَيْرُ الماكرين } أى أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا ، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (54)

ثم قال{[5066]} تعالى مخبرا عن [ ملأ ]{[5067]} بني إسرائيل فيما هَمُّوا به من الفتك{[5068]} بعيسى ، عليه السلام ، وإرادته بالسوء والصَّلب ، حين تمالؤوا{[5069]} عليه وَوَشَوا به إلى ملك ذلك الزمان ، وكان كافرًا ، فأنْهَوا إليه أن هاهنا رجلا يضل الناس ويصدهم عن طاعة الملك ، وَيُفَنِّد الرعايا ، ويفرق بين الأب وابنه{[5070]} إلى غير ذلك مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب ، وأنه ولد زانية{[5071]} حتى استثاروا غضب الملك ، فبعث في طلبه من يأخذه ويصلبه ويُنَكّل به ، فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظَفروا به ، نجاه الله من بينهم ، ورفعه من رَوْزَنَة ذلك البيت إلى السماء ، وألقى الله شبهه على رجل [ ممن ]{[5072]} كان عنده في المنزل ، فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل عيسى ، عليه السلام ، فأخذوه وأهانوه وصلبوه ، ووضعوا على رأسه الشوك . وكان هذا من مكر الله بهم ، فإنه نجى نبيه ورفعه من بين أظهرهم ، وتركهم في ضلالهم يعمهون ، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطَلبتِهم ، وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعنادا للحق ملازما لهم ، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } .


[5066]:في أ: "وقال".
[5067]:زيادة من أ، و.
[5068]:في أ: "القتل".
[5069]:في أ: "مالوا".
[5070]:في جـ، أ، و: "الابن وأبيه".
[5071]:في جـ، ر، أ، و: "زنية".
[5072]:زيادة من أ، و.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (54)

{ ومكروا } أي الذين أحس منهم الكفر من اليهود بأن وكلوا عليه من يقتله غيلة . { ومكر الله } حين رفع عيسى عليه الصلاة والسلام وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل . والمكر من حيث إنه في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة لا يسند إلى الله تعالى إلا على سبيل المقابلة والازدواج . { والله خير الماكرين } أقواهم مكرا وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (54)

عطف على جملة { فلما أحس عيسى منهم الكفر } فإنّه أحس منهم الكفر وأحس منهم بالغدر والمكر .

وضمير مكروا عائد إلى ما عاد إليه ضمير منهم وهم اليهود وقد بَيّن ذلك قولُه تعالى ، في سورة الصف ( 14 ) : { قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة } والمكر فعل يُقصد به ضُرُّ أحَد في هيئة تخفى عليه ، أو تلبيس فعل الإضرار بصورة النفع ، والمراد هنا : تدبير اليهود لأخذ المسيح ، وسعيُهم لدى ولاة الأمور ليمكّنوهم من قتله . ومَكْرُ الله بهم هو تمثيل لإخفاق الله تعالى مساعيَهم في حال ظنهم أن قد نجحت مساعيهم ، وهو هنا مشاكلة . وجَازَ إطلاق المكر على فعل الله تعالى دونَ مشاكلة كما في قوله : { أفأمنوا مكر اللَّه } ( 99 ) في سورة الأعراف وبعض أساتذتنا يسمي مثل ذلك مشاكلة تقديرية .

ومعنى : { والله خير الماكرين } أي أقواهم عند إرادة مقابلة مكرهم بخذلانه إياهم .

ويجوز أن يكون معنى خير الماكرين : أنّ الإملاء والاستدراج ، الذي يقدّره للفجّار والجبابرة والمنافقين ، الشبيه بالمَكر في أنّه حَسَن الظاهر سَيّء العاقبة ، هو خير محض لا يترتّب عليه إلاّ الصلاح العام ، وإن كان يؤذي شخصاً أو أشخاصاً ، فهو من هذه الجهة مجرّد عما في المكر من القُبح ، ولذلك كانت أفعاله تعالى منزّهة عن الوصف بالقبح أو الشناعة ، لأنها لا تقارنها الأحوال التي بها تقبح بعض أفعال العباد ؛ من دلالة على سفاهة رَأي ، أو سوء طوية ، أو جُبن ، أو ضُعف ، أو طَمع ، أو نحو ذلك . أي فإن كان في المكر قبْح فمكر الله خير محض ، ولك على هذا الوجه أن تجعل « خَيْر » بمعنى التفضيل وبدونه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (54)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ومكر الذين كفروا من بني إسرائيل، وهم الذين ذكر الله أن عيسى أحسّ منهم الكفر، وكان مكرهم الذي وصفهم الله به، مواطأة بعضهم بعضا على الفتك بعيسى وقتله، وذلك أن عيسى صلوات الله عليه بعد إخراج قومه إياه وأمه من بين أظهرهم عاد إليهم...

وأما مكر الله بهم فإنه فيما ذكر السديّ: إلقاؤه شبه عيسى على بعض أتباعه، حتى قتله الماكرون بعيسى، وهم يحسبونه عيسى، وقد رفع الله عزّ وجلّ عيسى قبل ذلك.

وقد يحتمل أن يكون معنى مكر الله بهم استدراجه إياهم ليبلغ الكتاب أجله، كما قد بينا ذلك في قول الله: {اللّهُ يستهزئ بِهِمْ}.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ومكروا ومكر الله}: مكروا بنبي الله عيسى عليه السلام حين كذبوه، وهموا بقتله، {ومكر الله} أي يجازيهم جزاء مكرهم، وحرف المكر مذموم عند الخلق، فلا يجوز أن يسمى الله به إلا في موضع الجزاء على ما ذكره جل وعلا في موضع الجزاء كقوله: {فمن اعتدى عليكم} [البقرة: 194] والاعتداء منهي [عنه] غير جائز كقوله: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة: 190] فكان قوله: {فاعتدوا عليه} [البقرة: 194] هو جزاء الاعتداء، فيجوز. فعلى ذلك المكر والخداع والاستهزاء لا يجوز أن يسمى [الله] به، فيقال: يا ماكر، ويا خادع، ويا مستهزئ لأنها حروف مذمومة عند الناس، فيشتم بعضهم بعضا بذلك، لذلك لا يجوز أن يسمى الله به إلا في موضع الجزاء، وبالله العصمة. {والله خير الماكرين}: أي خير المجيزين، [يجازي] أهل الجور بالعدل وأهل الخير بالفضل... والمكر هو الأخذ بالغفلة، والله يأخذهم بالحق من حيث لا يعلمون، فسمي مكرا لذلك كما يقال: امتحنه الله، وهو الاستظهار، ولكن يراد به هذا في الله.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

والمكر: ألطف التدبير...

وقال أهل المعاني: المكر السعي في الفساد في ستر ومداجاة، وأصله من قول العرب: مكر الليل...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

وأصل المكر: الالتفاف، ولذلك سمي الشجر الملتف مكراً، والمكر هو الاحتيال على الإنسان لالتفاف المكروه به...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره، وإبطال دينه ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود، والله أعلم...

.الثالث: أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات، لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير، وذلك في حق الله تعالى غير ممتنع والله أعلم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ورد في سورة الأعراف إضافة المكر إلى الله تعالى من غير مقابلة الناس قال: {أفأمنوا مكر الله؟ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} [الأعراف: 99] والمكر في الأصل التدبير الخفي المفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب...

ولما كان الغالب أن يكون ذلك في السوء لأن من يدبر للإنسان ما يسره وينفعه لا يكاد يحتاج إلى إخفاء تدبيره غلب استعمال المكر في التدبير السيئ وإن كان في المكر الحسن والسيئ جميعا قال تعالى: {استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} [فاطر: 43] ووجه الحاجة إلى المكر الحسن أن من الناس من إذا علم بما يدبر له من الخير أفسد على الفاعل تدبيره لجهله فيحتاج مربيه أو متولي شؤونه إلى أن يحتال عليه ويمكر به ليوصله إلى ما لا يصح أن يعرفه قبل الوصول. إذ يوجد في الماكرين الأشرار والأخيار {والله خير الماكرين} فإن تدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه وإتمام حكمه وكلها خير في نفسها وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم...

خير الماكرين "بناء على أن المكر في نفسه شر: أي إن كان في الخير مكر فمكره سبحانه وتعالى موجه إلى الخير ومكرهم هو الموجه إلى الشر...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والمكر الذي مكره اليهود الذين لم يؤمنوا برسولهم -عيسى عليه السلام- مكر طويل عريض. فقد قذفوه عليه السلام وقذفوا الطاهرة أمه مع يوسف النجار خطيبها الذي لم يدخل بها كما تذكر الأناجيل.. وقد اتهموه بالكذب والشعوذة؛ ووشوا به إلى الحاكم الروماني "بيلاطس "وادعوا أنه "مهيج" يدعو الجماهير للانتقاض على الحكومة! وأنه مشعوذ يجدف ويفسد عقيدة الجماهير! حتى سلم لهم بيلاطس بأن يتولوا عقابه بأيديهم، لأنه لم يجرؤ -وهو وثني- على احتمال تبعة هذا الإثم مع رجل لم يجد عليه ريبة.. وهذا قليل من كثير...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمكر: فعل يُقصد به ضُرُّ أحَد في هيئة تخفى عليه، أو تلبيس فعل الإضرار بصورة النفع، والمراد هنا: تدبير اليهود لأخذ المسيح، وسعيُهم لدى ولاة الأمور ليمكّنوهم من قتله. ومَكْرُ الله بهم هو تمثيل لإخفاق الله تعالى مساعيَهم في حال ظنهم أن قد نجحت مساعيهم.

ومعنى: {والله خير الماكرين} أي أقواهم عند إرادة مقابلة مكرهم بخذلانه إياهم.

ويجوز أن يكون معنى خير الماكرين: أنّ الإملاء والاستدراج، الذي يقدّره للفجّار والجبابرة والمنافقين، الشبيه بالمَكر في أنّه حَسَن الظاهر سَيّء العاقبة، هو خير محض لا يترتّب عليه إلاّ الصلاح العام، وإن كان يؤذي شخصاً أو أشخاصاً، فهو من هذه الجهة مجرّد عما في المكر من القُبح، ولذلك كانت أفعاله تعالى منزّهة عن الوصف بالقبح أو الشناعة، لأنها لا تقارنها الأحوال التي بها تقبح بعض أفعال العباد؛ من دلالة على سفاهة رَأي، أو سوء طوية، أو جُبن، أو ضُعف، أو طَمع، أو نحو ذلك. أي فإن كان في المكر قبْح فمكر الله خير محض، ولك على هذا الوجه أن تجعل « خَيْر» بمعنى التفضيل وبدونه.