ثم أمرهم - سبحانه - بالوفاء بالعهود فقال : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ . . } .
والعهد : ما من شأنه أن يراعى ويحفظ ، كاليمين والوصية وما يشبههما .
وعهد الله : أوامره ونواهيه وتكاليفه الشرعية التي كلف الناس بها ، والوفاء بعهد الله - تعالى - : يتأتى بتنفيذ أوامره وتكاليفه ، واجتناب ما نهى عنه .
قال القرطبي : قوله - تعالى - : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ . . . } لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ، ويلتزمه الإِنسان من بيع أوصلة ، أو مواثقة في أمر موافق للديانة .
وهذه الآية مضمن قوله - تعالى - : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } ، لأن المعنى فيها : افعلوا كذا ، وانتهوا عن كذا ، فعطف على ذلك التقدير .
وقد قيل إنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإِسلام . وقيل : نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية ، وجاء الإِسلام بالوفاء به -كحلف الفضول- .
والمعنى : إن الله يأمركم - أيها المسلمون - بالعدل والإِحسان وإيتاه ذي القربى ، ويأمركم - أيضا - بالوفاء بالعهود التي التزمتم بها مع الله - تعالى - أو مع الناس .
والآيات التي وردت في وجوب الوفاء بالعهود كثيرة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } ، وخص - سبحانه - الأمر بالوفاء بالعهد بالذكر - مع أنه داخل في المأمورات التي اشتملت عليها الآية السابقة كما أشار إلى ذلك القرطبي في كلامه السابق - ؛ لأن الوفاء بالعهود من آكد الحقوق وأوجبها على الإِنسان .
وقوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فارهبون } ، ومن الأحاديث التي وردت في ذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان " .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا . . . } ، تأكيد للأمر بالوفاء ، وتحذير من الخيانة والغدر .
والنقض في اللغة : حقيقة في فسخ ما ركب بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب . واستعمل هنا على سبيل المجاز في إبطال العهد .
والأيمان : جمع يمين . وتطلق بمعنى الحلف والقسم . وأصل ذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا توثيق عهودهم بالقسم يقسمونه ، ووضع كل واحد من المتعاهدين يمينه في يمين صاحبه .
أي : كونوا أوفياء بعهودكم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، أي : بعد توثيقها وتغليظها عن طريق تكرارها بمرة ومرتين ، أو عن طريق الإِتيان فيها ببعض أسماء الله - تعالى - وصفاته .
وقوله - تعالى - : { بعد توكيدها } ، للإِشعار بأن نقض الأيمان وإن كان قبيحا في كل حالة ، فهو في حالة توكيد الأيمان وتغليظها أشد قبحا .
ولذا قال بعض العلماء : " وهذا القيد لموافقة الواقع ، حيث كانوا يؤكدون أيمانهم في المعاهدة ، وحينئذ فلا مفهوم له ، فلا يختص النهي عن النقض بحالة التوكيد ، بل نقض اليمين منهي عنه مطلقا . أو يراد بالتوكيد القصد ، ويكون احترازا عن لغو اليمين . وهي الصادرة عن غير قصد للحلف " .
وقال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : " ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " . وفي رواية : " وكفرت عن يميني " ؛ لأن هذه الأيمان المراد بها في الآية : الداخلة في العهود والمواثيق ، لا الأيمان التي هي واردة في حث أو منع . . . " .
والخلاصة ، أن الآية الكريمة تنهى المؤمن عن نقض الأيمان نهيا عاما ، إلا أن السنة النبوية الصحيحة قد خصصت هذا التعميم بإباحة نقض اليمين إذا كانت مانعة من فعل الخير ، ويؤيد هذا التخصيص قوله - تعالى - : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس . . } ، وجملة : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً . . } ، حال من فاعل { تنقضوا } ، وهي مؤكدة لمضمون ما قبلها من وجوب الوفاء بالعهود والنهي عن نقضها .
والكفيل : من يكفل غيره ، أي : يضمنه في أداء ما عليه .
أي : ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، والحال أنكم قد جعلتم الله - تعالى - ضامنا لكم فيما التزمتم به من عهود ، وشاهدا ورقيبا على أقوالكم وأعمالكم .
فالجملة الكريمة تحذر المتعاهدين من النقض بعد أن جعلوا الله - تعالى - كفيلا عليهم .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بهذا التهديد الخفي فقال - تعالى - : { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } ، أي : إن الله - تعالى - يعلم ما تفعلون من الوفاء أو النقض ، وسيجازيكم بما تستحقون من خير أو شر ، فالمراد من العلم لازمه ، وهو المجازاة على الأعمال .
وهذا مما يأمر الله تعالى به{[16661]} ، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق ، والمحافظة على الأيمان المؤكدة ؛ ولهذا قال : { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ،
ولا تعارض بين هذا وبين قوله : { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا [ وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ] } [ البقرة : 224 ]{[16662]} وبين قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 ] ، أي : لا تتركوها بلا تكفير ، وبين قوله عليه السلام{[16663]} فيما ثبت عنه في الصحيحين{[16664]} : إني والله إن شاء الله ، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " . وفي رواية : " وكفرت عن يميني " ، لا تعارض بين هذا كله ، ولا بين الآية المذكورة هاهنا ، وهي قوله : { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ] }{[16665]} ؛ لأن هذه الأيمان ، المراد بها : الداخلة في العهود والمواثيق ، لا الأيمان التي هي واردة على حَثّ أو منع ؛ ولهذا قال مجاهد في قوله : { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، يعني : الحِلْف ، أي : حلْفَ الجاهلية ؛ ويؤيده ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - ، حدثنا ابن نُمَيْر وأبو أسامة ، عن زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جُبَيْر بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حِلْف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " .
وكذا رواه مسلم ، عن ابن أبي شيبة ، به{[16666]} .
ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلْف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه ، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه .
وأما ما ورد في الصحيحين ، عن عاصم الأحول ، عن أنس ، رضي الله عنه ، أنه قال : حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا{[16667]} - فمعناه : أنه آخى بينهم ، فكانوا يتوارثون به ، حتى نسخ الله ذلك ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، حدثنا عبيد الله{[16668]} بن موسى ، أخبرنا ابن أبي ليلى ، عن مَزِيدة{[16669]} في قوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } ، قال : نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ، كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، فقال : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } ، هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام ، { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } البيعة ، لا يحملنكم قلة محمد [ وأصحابه ]{[16670]} وكثرة المشركين ، أن تنقضوا البيعة التي تبايعتم على الإسلام .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا صخر بن جُوَيرية ، عن نافع قال : لما خلع الناس يزيد بن معاوية ، جمع ابن عمر بنيه وأهله ، ثم تشهد ، ثم قال : أما بعد ، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة ، فيقال{[16671]} هذه غَدْرة فلان ، وإن من أعظم الغَدْر - إلا أن يكون الإشراك بالله - أن يبايع رجل رجلا على بيعة الله ورسوله ، ثم ينكث بيعته ، فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر ، فيكون صَيْلم بيني وبينه " {[16672]} .
المرفوع منه في الصحيحين{[16673]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حجاج ، عن عبد الرحمن بن عابس ، عن أبيه ، عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من شرط لأخيه شرطًا ، لا يريد أن يفي له به ، فهو كالمدلي جاره إلى غير مَنْعَة " {[16674]} .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } ، تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها .
{ وأوفوا بعهد الله } ، يعني : البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } . وقيل : كل أمر يجب الوفاء به ولا يلائمه قوله : { إذا عاهدتم } ، وقيل : النذور . وقيل : الإيمان بالله ، { ولا تنقضوا الأيمان } ، أي : أيمان البيعة ، أو مطلق الأيمان . { بعد توكيدها } ، بعد توثيقها بذكر الله تعالى ، ومنه أكد بقلب الواو همزة . { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } ، شاهدا بتلك البيعة ، فإن الكفيل مراع لحال المكفول به ، رقيب عليه . { إن الله يعلم ما تفعلون } ، من نقض الأيمان والعهود .
لما أمر الله المؤمنين بملاك المصالح ونهاهم عن ملاك المفاسد بما أومأ إليه قوله : { يعظكم لعلكم تذكرون } [ سورة النحل : 90 ] . فكان ذلك مناسبة حسنة لهذا الانتقال الذي هو من أغراض تفنّن القرآن ، وأوضح لهم أنهم قد صاروا إلى كمال وخير بذلك الكتاب المبيّن لكل شيء . لا جرم ذكرهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه عندما أسلموا ، وهو ما بايعوا عليه النبي مما فيه : أن لا يعصوه في معروف . وقد كان النبي يأخذ البيعة على كل من أسلم من وقت ابتداء الإسلام في مكّة .
وتكررت البيعة قبيل الهجرة وبعدها على أمور أخرى ، مثل النّصرة التي بايع عليها الأنصار ليلة العقبة ، ومثل بيعة الحديبية .
والخطاب للمسلمين في الحفاظ على عهدهم بحفظ الشريعة ، وإضافة العهد إلى الله لأنهم عاهدوا النبي على الإسلام الذي دعاهم الله إليه ، فهم قد عاهدوا الله كما قال : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ سورة الفتح : 10 ] ، وقال : { من المؤمنين رجال صَدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ سورة الأحزاب : 23 ] . والمقصود : تحذير الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من أن ينقضوا عهد الله .
و { إذا } لمجرّد الظرفية ، لأنّ المخاطبين قد عاهدوا الله على الإيمان والطاعة ، فالإتيان باسم الزمان لتأكيد الوفاء . فالمعنى : أن من عاهد وجب عليه الوفاء بالعهد . والقرينة على ذلك قوله : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } [ سورة النحل : 91 ] والعهد : الحلف . وتقدّم في قوله تعالى : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } . وكذلك النقض تقدم في تلك الآية ، ونقض الأيمان : إبطال ما كانت لأجله . فالنقض إبطال المحْلوف عليه لا إبطال القسم ، فجُعِل إبطال المحلوف عليه نقضاً لليمين في قوله : { ولا تنقضوا الأيمان } تهويلاً وتغليظاً للنّقض لأنه نقض لحرمة اليمين .
و { بعد توكيدها } زيادة في التحذير ، وليس قيْداً للنّهي بالبعدية ، إذ المقصود أيمان معلومة وهي أيمان العهد والبيعة ، وليست فيها بعدية .
و { بعد } هنا بمعنى ( مع ) ، إذ البعدية والمعيّة أثرهما واحد هنا ، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها ، كقول الشميذر الحارثي :
بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعدما *** دفنتم بصحراء الغُمَيْر القوافيا
أي لا تذكروا أنّكم شعراء وأن لكم شعراً ، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغُمير ، وقوله تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ سورة الحجرات : 11 ] ، وقوله : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .
والتّوكيد : التوثيق وتكرير الفتل ، وليس هو توكيد اللفظ كما توهّمه بعضهم فهو ضدّ النقض . وإضافته إلى ضمير { الأيمان } ليس من إضافة المصدر إلى فاعله ولا إلى مفعوله إذ لم يقصد بالمصدر التجدّد بل الاسم ، فهي الإضافة الأصلية على معنى اللام ، أي التوكيد الثابت لها المختصّ بها . والمعنى : بعد ما فيها من التوكيد ، وبيّنه قوله : { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } .
والمعنى : ولا تنقضوا الأيمان بعد حلفها . وليس في الآية إشعار بأن من اليمين ما لا حرج في نقضه ، وهو ما سمّوه يمين اللّغو ، وذلك انزلاق عن مهيع النظم القرآني .
ويؤيّد ما فسرناه قوله : { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } الواقع موقع الحال من ضمير { لا تنقضوا } ، أي لا تنقضوا الأيمان في حال جعلكم الله كفيلاً على أنفسكم إذا أقسمتم باسمه ، فإن مدلول القسم أنه إشهاد الله بصدق ما يقوله المقسم : فيأتي باسم الله كالإتيان بذات الشاهد . ولذلك سُمّيَ الحلف شهادة في مواضع كثيرة ، كقوله : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } [ سورة النور : 6 ] . والمعنى أن هذه الحالة أظهر في استحقاق النّهي عنها .
والكفيل : الشاهد والضامن والرقيب على الشيء المراعى لتحقيق الغرض منه .
والمعنى : أن القسم باسم الله إشهاد لله وكفالة به . وقد كانوا عند العهد يحلفون ويشهدون الكفلاء بالتنفيذ ، قال الحارث بن حلّزة :
واذكروا حلف ذي المجاز وما قُ *** دّم فيه العهود والكفلاء
و { عليكم } متعلّق ب { جعلتم } لا ب { كفيلاً } أي أقمتموه على أنفسكم مقام الكفيل ، أي فهو الكفيل والمكفول له من باب قولهم : أنت الخصم والحكم ، وقوله تعالى : { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } [ سورة التوبة : 118 ] .
وجملة { إن الله يعلم ما تفعلون } معترضة . وهي خبر مراد منه التحذير من التساهل في التمسّك بالإيمان والإسلام لتذكيرهم أن الله يطّلع على ما يفعلونه ، فالتوكيد ب { إن } للاهتمام بالخبر .
وكذلك التأكيد ببناء الجملة بالمسند الفعلي دون أن يقال : إن الله عليم ، ولا : قد يعلم الله .
واختير الفعل المضارع في { يعلم } وفي { تفعلون } لدلالته على التجدّد ، أي كلما فعلوا فعلاً فالله يعلمه .
والمقصود من هذه الجمل كلها من قوله : { وأوفوا بعهد الله } إلى هنا تأكيد الوصاية بحفظ عهد الأيمان . وعدم الارتداد إلى الكفر ، وسدّ مداخل فتنة المشركين إلى نفوس المسلمين ، إذ يصدّونهم عن سبيل الإسلام بفنون الصدّ ، كقولهم : { نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين } [ سورة سبأ : 35 ] ، كما أشار إليه قوله تعالى : { وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } وقد تقدم ذلك في سورة الأنعام ( 53 ) .
ولم يذكر المفسّرون سبباً لنزول هذه الآية ، وليست بحاجة إلى سبب . وذكروا في الآية الآتية وهي قوله : { من كفر بالله من بعد إيمانه } [ سورة النحل : 106 ] أن آية { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } إلى آخرها نزلت في الذين رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان لما فتنهم المشركون كما سيأتي ، فجعلوا بين الآيتين اتصالاً .
قال في « الكشاف » : كأن قوماً ممن أسلم بمكة زَيّنَ لهم الشيطان لجزعهم ما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ، ولِمَا كانوا يَعِدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبّتهم الله ا ه . يريد أن لهجة التحذير في هذا الكلام إلى قوله : { إنما يبلوكم الله به } [ سورة النحل : 92 ] تنبىء عن حالة من الوسوسة داخلت قلوب بعض حديثي الإسلام فنبّأهم الله بها وحذّرهم منها فسلموا .