وقوله : { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } مبتدأ .
وقوله : { أولئك هُمُ الصديقون } خبره ، والذين آمنوا بالله ورسله إيمانا حقا - لهم منزلة الصديقين : منزلة المبالغين فى الصدق واليقين .
فالصديق - بتشديد الدال - هو المبالغ فى الصدق بما جاءه به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفى تنفيذ ما كلف به تنفيذا تاما .
{ والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ } وهم الذين استشهدوا فى سبيل الله - تعالى - : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } العظيم عند الله - تعالى - { وَنُورُهُمْ } الذى يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يوم القيامة لهم كذلك .
فعلى هذا التفسير يكون قوله : { والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ } مبتدأ ، وجملة { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } ، خبره ، ويكون الوقف على { الصديقون } وقفا تاما . . . والضمائر فى { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } للشهداء .
ويصح أن يكون قوله { والشهدآء } معطوف على { الصديقون } عطف المفرد على المفرد ، فهو عطف على الخبر ، أى : وهم الشهداء عند ربهم . . . ويكون الموقف على الشهداء تاما ، وأخبر - سبحانه - عن الذين آمنوا بالله ورسله ، أنهم صديقون وشهداء .
والمعنى على هذا الوجه : والذين آمنوا بالله ورسله ، أولئك هم الذين فى حكمه - تعالى - بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ، ورفعة الدرجة .
وقوله - تعالى - : { عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أى : للذين آمنوا بالله ورسله عند ربهم ، مثل أجر الصديقين والشهداء ولهم مثل نورهم يوم القيامة ، وناهيك به من أجر عظيم ، ونور عميم .
وحذف ما يفيد التشبيه فى الجملتين ، للتنبيه على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : يريد أن المؤمنين بالله ورسله ، هم عند الله - تعالى - بمنزلة الصديقين والشهداء ، وهم الذين سبقوا إلى التصديق ، واستشهدوا فى سبيل الله .
وقوله : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أى : لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم .
فإن قلت : كيف يسوى بينهم فى الأجر ولا بد من التفاوت ؟ قلت : المعنى أن الله - تعالى - يعطى الذين آمنوا بالله ورسله أجرهم . ويضاعفه لهم بفضله . حتى يساوى أجرهم مع أضعافه ، أجر أولئك ، أى : أجر الصديقين والشهداء .
ويجوز أن يكون قوله : { والشهدآء } مبتدأ ، وقوله ، { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } خبره . .
وقوله - تعالى - : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم } بيان لسوء عاقبة الكافرين ، بعد بيان حسن عاقبة المؤمنين الصادقين .
أى : والذين كفروا بالله ورسله ، وكذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا أولئك أصحاب الجحيم ، الملازمون له ملازمة الشى لصاحبه .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حضت المؤمنين على المواظبة على ذكر الله - تعالى - وطاعته ونهتهم عن التشبه بالذين قست قلوبهم ، وبشرت المصدقين والمصدقات ، والذين آمنوا بالله - تعالى - وبرسله إيمانا حقا . . . بالأجر العظيم ، وبالعطاء الجزيل .
وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } هذا تمام لجملة ، وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون .
قال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } هذه مفصولة { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } .
وقال أبو الضحى : { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } ثم استأنف الكلام فقال : { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } وهكذا قال مسروق ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم .
وقال الأعمش عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } قال : هم ثلاثه أصناف : يعني المصدقين ، والصديقين ، والشهداء ، كما قال [ الله ] {[28283]} تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ] ففرق بين الصديقين والشهداء ، فدل على أنهما صنفان . ولا شك أن الصديق أعلى مقامًا من الشهيد ، كما رواه الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله ، في كتابه الموطأ ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم ، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب ، لتفاضل ما بينهم " . قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : " بلى والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " .
اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث مالك ، به{[28284]}
وقال آخرون : بل المراد من قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } فأخبر عن المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون وشهداء . حكاه ابن جرير عن مجاهد ، ثم قال ابن جرير :
حدثني صالح ابن حرب أبو مَعْمَر ، حدثنا إسماعيل بن يحيى ، حدثنا ابن عَجْلان عن زيد بن أسلم ، عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مؤمنو أمتي شهداء " . قال : ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ] } {[28285]} هذا حديث غريب{[28286]}
وقال أبو إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } قال : يجيؤون يوم القيامة معًا كالإصبعين .
وقوله : { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : في جنات النعيم ، كما جاء في الصحيحين : " إن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضْر تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : ماذا تريدون ؟ فقالوا : نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قُتِلنا أول مرة . فقال إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون " {[28287]}
وقوله : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي : لهم عند ربهم أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم ، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يحيى ابن إسحاق ، حدثنا بن لَهِيعَة ، عن عطاء بن دينار ، عن أبي يزيد الخولاني قال : سمعت فضالة بن عُبَيد يقول : سمعت عمر بن الخطاب يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الشهداء أربعة : رجل مؤمن جيد الإيمان ، لقي العدو فصدق الله فقتل ، فذلك{[28288]} الذي ينظر الناس إليه هكذا - ورفع رأسه حتى سقطت قَلَنْسُوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قلنسوة عمر - والثاني مؤمن {[28289]} لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح ، جاءه سهم غَرْب فقتله ، فذاك في الدرجة الثانية ، والثالث رجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئًا لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذاك في الدرجة الثالثة ، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافًا كثيرًا ، لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذاك في الدرجة الرابعة " . {[28290]}
وهكذا رواه علي بن المديني ، عن أبي داود الطيالسي ، عن ابن المبارك ، عن ابن لَهِيعَة ، وقال : هذا إسناد مصري صالح . ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال : حسن غريب{[28291]}
وقوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } لما ذكر السعداء ومآلهم ، عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم .
والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء أو هم المبالغون في الصدق فإنهم آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله ورسله والقائمون بالشهادة لله ولهم أو على الأمم يوم القيامة وقيل والشهداء عند ربهم مبتدأ وخبر والمراد به الأنبياء من قوله فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد أو الذين استشهدوا في سبيل الله لهم أجرهم ونورهم مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ولكنه من غير تضعيف ليحل التفاوت أو الأجر والنور الموعودان لهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص والصحبة تدل على الملازمة عرفاء .
ثم ذكر في هذه أهل الصدقة ووعدهم ، ثم ذكر أهل الإيمان والتصديق في قوله : { والذين آمنوا بالله ورسله } وعلى قراءة من قرأ : «إن المصَدقين » بتخفيف الصاد فذكر المؤمنين مكرر في اللفظ ، وكون الأصناف منفردة بأحكامها من الوعد أبين .
والإيمان بمحمد يقتضي الإيمان بجميع الرسل ، فلذلك قال : { ورسله } . و { الصديقون } بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزجاج ، وفعيل لا يكون فيما أحفظ إلا من فعل ثلاثي ، وقد أشار بعض الناس إلى أنه يجيء من غير الثلاثي . وقال : مسيك من أمسك ، وأقول إنه يقال : مسك الرجل وقد حكى مسك الشيء ، وفي هذا نظر .
وقوله تعالى : { والشهداء عند ربهم } اختلف الناس في تأويل ذلك ، فقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة : { والشهداء } معطوف على قوله : { الصديقون } والكلام متصل . ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاتصال ، فقال بعضها : وصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء ، فكل مؤمن شهيد ، قاله مجاهد . وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مؤمنو أمتي شهداء » ، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية{[10979]} ، وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفاً ، ولأنهم في أعلى رتب الشهادة ، ألا ترى أن المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً من السبعة بتشريف ينفرد به . وقال بعضها : وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء لكن من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد ، وذلك نحو قوله تعالى :
{ وتكونوا شهداء على الناس }{[10980]} [ البقرة : 143 ] فكأنه قال في هذه الآية : هم أهل الصدق والشهادة على الأمم عند ربهم ، وقال ابن عباس ومسروق والضحاك : الكلام تام في قوله : { الصديقون } . وقوله : { والشهداء } ابتداء مستأنف .
ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستئناف ، فقال بعضها معنى الآية : { والشهداء } بأنهم صديقون حاضرون { عند ربهم } . وعنى ب { الشهداء } : الأنبياء عليهم السلام ، فكأن الأنبياء يشهدون للمؤمنين بأنهم صديقون ، وهذا يفسره قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }{[10981]} [ النساء : 41 ] . وقال بعضها قوله : { والشهيد } ابتداء يريد به الشهداء في سبيل الله ، واستأنف الخبر عنهم بأنهم : { عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } فكأنه جعلهم صنفاً مذكوراً وحده ، وفي الحديث : «إن أهل الجنة العليا ليراهم من دونهم كما ترون الكوكب الدري ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما »{[10982]} .
وقوله تعالى : { لهم أجرهم ونورهم } خبر عن الشهداء فقط على الأخير من الأقوال ، وهو خبر عن المؤمنين المذكورين في أول الآية على الأقوال الثلاثة .
وقوله تعالى : { ونورهم } قال جمهور المفسرين : هو حقيقة حسبما روي مما تقدم ذكره في هذه السورة . وقال مجاهد وغيره : هو مجاز عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى التي حصلوا فيها .
ولما فرع ذكر المؤمنين وأهل الكرامة ، عقب ذكر الكفرة المكذبين ليبين الفرق ، فذكرهم تعالى بأنهم { أصحاب الجحيم } وسكانه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذين أقرّوا بوحدانية الله وإرساله رسله، فصدّقوا الرسل وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربهم، أولئك هم الصّدّيقون.
وقوله:"والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ "اختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: والشهداء عند ربهم منفصل من الذي قبله، والخبر عن الذين آمنوا بالله ورسله، متناه عند قوله: "الصّدّيقُونَ"... ثم ابتدئ الخبر عن الشهداء فقيل: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم...
وقال آخرون: بل قوله: والشهداء من صفة الذين آمنوا بالله ورسله قالوا: إنما تناهى الخبر عن الذين آمنوا عند قوله: "والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ" ثم ابتدئ الخبر عما لهم، فقيل: لهم أجرهم ونورهم...
وقال آخرون: الشهداء عند ربهم في هذا الموضع: النبيون الذين يشهدون على أممهم من قول الله عزّ وجلّ "فَكَيْفَ إذَا جِئْنا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا".
والذي هو أولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال: الكلام والخبر عن الذين آمنوا، متناه عند قوله: "أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ"، وإن قوله: "والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ" خبر مبتدأ عن الشهداء.
وإنما قلنا: إن ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن ذلك هو الأغلب من معانيه في الظاهر، وأنّ الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد لا بمعنى غيره، إلا أن يُراد به شهيد على ما آمن به وصدّقه، فيكون ذلك وجها، وإن كان فيه بعض البعد، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه، إذا أطلق بغير وصل، فتأويل قوله: "والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ" إذن: والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله، أو هلكوا في سبيله عند ربهم، لهم ثواب الله إياهم في الآخرة ونورهم.
وقوله: "وَالّذِينَ كَفَرُوا وكَذّبُوا بآياتِنا أُولَئِكَ أصحَابُ الجَحِيمِ" يقول تعالى ذكره: والذين كفروا بالله وكذّبوا بأدلته وحججه، أولئك أصحاب الجحيم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون} سمى المؤمنين صديقين، والصديق لا يقال إلا لمن يكثر منه التصديق، وقد يكثر منه التصديق، وقد يكثر من كل مؤمن التصديق، وإن كان ما يأتي به، إنما هو شيء واحد، نحو أنه إذا صدق الله صدق رسله في ما أخبروا عن الله تعالى وفي ما دعوا إلى ما دعوا، وبلغوا عن الله إلى الناس، وصدق الخلائق جميعا في ما شهدوا على وحدانية الله تعالى وأوهيته من حيث شهادة الخلقة وشهادة الأخبار في حق المؤمنين. فتصديقه يكثر، وإن كان الكلام في نفسه يقل...
وقوله تعالى: {والشهداء عند ربهم} من الناس من جعل قوله:
{والشهداء عند ربهم} على الابتداء مقطوعا من قوله: {أولئك هم الصديقون} ومنهم من وصله به...ومن قال: إنه موصول بالأول ذهب إلى أن المؤمنين شهداء على الناس كقوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} الآية [البقرة: 143] سماهم شهداء على غيرهم من الأمم، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يريد أنّ المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصدّيقين والشهداء؛ وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي: مثل أجر الصدّيقين والشهداء ومثل نورهم.
فإن قلت: كيف يسوّي بينهم في الأجر ولا بدّ من التفاوت؟ قلت: المعنى أنّ الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله، حتى يساوى أجرهم مع إضعافه أجر أولئك.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ}:...أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى الْأُمَمِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:"لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ". وَأَمَّا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والذين آمنوا} اي أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم {بالله} أي الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام {ورسله} اي كلهم لما لهم من النسبة إليه، فمن كذب بشيء على أحد منهم أو عمل عمل المكذب له لم يكن مؤمناً به {أولئك} أي الذين لهم الرتب العالية والمقامات السامية {هم} أي خاصة لا غيرهم {الصديقون} أي الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه، ولما كان الصديق لا يكون عريقاً في الصديقية إلا بالتأهيل لرتبة الشهادة قال تعالى: {والشهداء} معبراً بما مفرده شهيد عاطفاً بالواو إشارة إلى قوة التمكن في كل من الوصفين...
{والذين كفروا} أي ستروا ما دلت عليه أنوار عقولهم ومرائي فكرهم {وكذبوا بآياتنا} على ما لها من العظمة بنسبتها إلينا سواء كانوا في ذلك مساترين أو مجاهرين أو عمل العالم بها عمل المكذب {أولئك} أي المبعدون من الخير خاصة {أصحاب الجحيم}...وأولئك هم الكاذبون الذين لا تقبل لهم شهادة عند ربهم، لهم عقابهم وعليهم ظلامهم، والآية من الاحتباك: ذكر الصديقية وما معها أولاً دليلاً على أضدادها ثانياً، و الجحيم ثانياً دليلاً على النعيم أولاً، وسره أن الأول أعظم في الكرامة، والثاني أعظم في الإهانة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون).. وتلك خاصية هذا الدين وميزته. إنه طريق مفتوح لجميع البشر، وأفق يتطلع إليه الجميع، ليس فيه احتكار للمقامات، وليس فيه خصوصيات محجوزة لأناس بأعيانهم. وليس إلا العمل يصعد بصاحبه إلى أرقى الدرجات. إنه دين لا مجال فيه للطبقات المحفوظة المقام!...