ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الموعد الذي تعلن فيه هذه البراءة من المشركين حتى لا يكون لهم عذر بعد هذا الإِعلان فقال - تعالى - :
{ وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ . . . } .
الأذان : الإِعلام تقول : آذنته بالشئ إذا أعلمته به . ومنه الأذان للصلاة أى الإِعلام بحلول وقتها . وهو بمعنى الإِيذان كما أن العطاء بمعنى الإِعطاء .
قال الجمل : وهو مرفوع بالابتداء . و { مِّنَ الله } إما صفته أو متعلق به { إِلَى الناس } الخبر ، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف . أى : وهذه ، أى : الآيات الآتى ذكرها إعلام من الله ورسوله . .
والمعنى : وهذه الآيات إيذان وإعلان من الله ورسوله إلى الناس عامة يوم الحج الأكبر بأن الله ورسوله قد برئا من عهود المشركين ، وأن هذه العهود قد نبذت إليهم ، بسبب إصرارهم على شركهم ونقضهم لمواثيقهم .
وأسند - سبحانه - الأذان إلى الله ورسوله ، كما أسنتدت البراءة إليهما ، إعلاء لشأنه وتأكيدا لأمره :
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية ؟ قلت : تلك إخبار بثبوت البراءة ، وهذه إخبار بوجوب الإِعلام بما ثبت .
فإن قلت : لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس ؟ قلت : لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم وأما الأذان فعام لجميع الناس " من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث " .
واختير يوم الحج الأكبر لهذا الإِعلام ، لأنه اليوم الذي يضم أكبر عدد من الناس يمكن أن يذاع الخبر عن طريقهم في جميع أنحاء البلاد .
وأصح ما قيل في يوم الحج الأكبر أنه يوم النحر . وقيل : هو يوم عرفة ، وقيل : هو جميع أيام الحج .
وقد رجح ابن جرير - بعد أن بسط الأقوال في ذلك - أن المراد بيوم الحج الأكبر : يوم النحر فقال . وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا : قول من قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر ، لتظاهر الأخبار عن جماعة من الصحابة أن علياً بما أرسله به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين يوم النحر ، هذا مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم النحر : " أتدرون أى يوم هذا ؟ هذا يوم الحج الأكبر " .
وقال بعض العلماء : قال ابن القيم : والصواب أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر ، لأنه ثبت في الحصيحين أن أبا بكر وعليا أذنا بذلك يوم النحر لا يوم عرفة . وفى سنن أبى داود بأصح إسناد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يوم الحج الأكبر يوم النحر " ، وكذا قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة .
ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع ثم يوم النحر تكون الوافدة والزيارة . . ويكون فيه ذبح القرابين ، وحلق الرءوس ، ورمى الجمار ، ومعظم أفعال الحج .
وقد ساق ابن كثير جملة من الأحاديث التي ما اكن ينادى به على بن أبى طالب والناس يوم الحج الأكبر ومن ذلك ما أخرجه الإِمام أحمد عن محرز بن أبى هريرة عن أبيه قال : كنت مع على بن أبى طالب حين بعثه النبى - صلى الله عليه وسلم - ينادى ، فكان إذا صحل ناديت - أى كان إذا بح صوته وتعب من كثرة النداء ناديت - قلت : بأى شئ كنتم تنادون ؟ قال : بأربع : لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، ومن كانله عهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعهده إلى مدته .
وسمى يوم النحر بالحج الأكبر ، لأن العمرة كانت تمسى بالحج الأصغر ولأن ما يفعل فيه معظم الحج - كما قال ابن القيم .
هذا ، وللعلماء أقوال في إعراب لفظ { وَرَسُولِهِ } من قوله - تعالى - { أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ } . وقد لخص الشيخ الجمل هذه الأقوال تلخيصا حسنا فقال : قوله { وَرَسُولُهُ } بالرفع باتفاق السبعة وقرئ شاذا بالجر على المجاورة . أو على أن الواو للقسم وقرئ شاذا أيضاً بالنصب على أنه مفعول معه ، أو معطوف على لفظ الجلالة ، وفى الرفع ثلاثة وجوه : أحدها أنه مبتدأ والخبر محذوف أى : ورسوله برئ منهم ، وإنما حذف للدلالة عليه . والثانى أنه معطوف على الضمير المستتر في الخبر . . والثالث : أنه معطوف على محل اسم أن . .
ثم أردف - سبحانه - هذا الإعلام بالبراءة من عهود المشركين بترغيبهم في الإِيمان وتحذيرهم من الكفر والعصيان فقال : { فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
أى : فإن تبتم أيها المشركون من كفركم ، ورجعتم إلى الإِيمان بالله وحده واتبعتم ما جاءكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو أى المتاب والرجوع إلى الحق { خَيْرٌ لَّكُمْ } من التمادى في الكفر والضلال : { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } وأعرضتم عن الإِيمان ، وأبيتم إلا الإِقامة على باطلكم { فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } أى : فأيقنوا أنكم لا مهرب لكم من عقاب الله ، ولا إفلات لكم من أخذه وبطشه ، لأنكم أينا كنتم فأنتم في قبضته وتحت قدرته .
وقوله : { وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } تذييل قصد به تأكيد زجرهم عن التولى والإِعراض عن الحق .
أى : وبشر - يا محمد - هؤلاء الذين كفروا بالحق لما جاءهم بالعذاب الأليم في الآخرة بعد إنزال الخزى والمذلة بهم في الدنيا .
ولفظ البشارة ورد هنا على سبيل الاستهزاء بهم ، كما يقال : تحيتهم الضرب ، وإكرامهم الشتم .
يقول تعالى : وإعلام { مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وتَقَدُّم وإنذار إلى الناس ، { يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ } وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكثرها جمعا{[13241]} { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } أي : بريء منهم أيضا .
ثم دعاهم إلى التوبة إليه فقال : { فَإِنْ تُبْتُمْ } أي : مما أنتم فيه من الشرك والضلال { فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ } أي : استمررتم على ما أنتم عليه { فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ } بل هو قادر ، وأنتم في قبضته ، وتحت قهره ومشيئته ، { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : في الدنيا بالخزي والنَّكال ، وفي الآخرة بالمقامع والأغلال .
قال البخاري ، رحمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، حدثني عَقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني حُمَيد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر ، رضي الله عنه ، في تلك الحَجَّة في المُؤذِّنين ، بعثهم يوم{[13242]} النحر ، يُؤذِّنون بمنى : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف{[13243]} بالبيت عريان . قال حميد : ثم أردف النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب ، فأمره أن يُؤَذِّن ببراءة . قال أبو هريرة : فأذَّنَ معنا عليٌّ في أهل منى يوم النحر ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان{[13244]}
ورواه البخاري أيضا : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شُعَيب ، عن الزهري ، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر فيمن يُؤذِّن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف{[13245]} بالبيت عُريان ، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، وإنما قيل : " الأكبر " ، من أجل قول الناس : " الحج الأصغر " ، فَنَبَذَ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك .
وهذا لفظ البخاري في كتاب " الجهاد " {[13246]}
{ وأذان من الله ورسوله إلى الناس } أي إعلام فعال بمعنى الإفعال كالأمان والعطاء ، ورفعه كرفع { براءة } على الوجهين . { يوم الحج الأكبر } يوم العيد لأن فيه تمام الحج معظم أفعاله ، ولأن الإعلام كان فيه ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال " هذا يوم الحج الأكبر " وقيل يوم عرفة لقوله صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة " . ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر ، أو لأن المراد بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال ، أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب ، أو لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين .
{ أن الله } أي بأن الله . { بريء من المشركين } أي من عهودهم . { ورسوله } عطف على المستكن في { بريء } ، أو على محل { إن } واسمها في قراءة من كسرها إجراء للأذان مجرى القول ، وقرئ بالنصب عطفا على اسم إن أو لأن الواو بمعنى مع ولا تكرير فيه ، فإن قوله { براءة من الله } إخبار بثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإعلام بذلك ولذلك علقه بالناس ولم يخصه بالمعاهدين . { فإن تبتم } من الكفر والغدر . { فهو } فالتوب { خير لكم وإن تولّيتم } عن التوبة أو تبتم على التولي عن الإسلام والوفاء . { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } لا تفوتونه طلبا ولا تعجزونه هربا في الدنيا . { وبشّر الذين كفروا بعذاب أليم } في الآخرة .
وقوله تعالى : { وأذان من الله ورسوله إلى الناس } الآية ، { وأذان } معناه إعلام وإشهار ، و { الناس } ها هنا عام في جميع الخلق ، و { يومَ } منصوب على الظرف والعامل فيه { آذان } وإن كان قد وصف فإن رائحة الفعل باقية ، وهي عاملة في الظروف ، وقيل لا يجوز ذلك إذ قد وصف المصدر فزالت عنه قوة الفعل ، ويصح أن يعمل فيه فعل مضمر تقتضيه الألفاظ ، وقيل العامل في صفة الأذان وقيل العامل فيه { مخزي } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، و { يوم الحج الأكبر } قال عمر وابن عمر وابن المسيب وغيرهم : هو يوم عرفة ، وقال به علي ، وروي عنه أيضاً أنه يوم النحر ، وروي ذلك عن أبي هريرة وجماعة غيرهم ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال منذر بن سعيد وغيره : كان الناس يوم عرفة مفترقين إذ كانت الحمس تقف بالمزدلفة وكان الجمع يوم النحر بمنى ، فلذلك كانوا يسمونه الحج الأكبر أي من الأصغر الذي هم فيه مفترقون .
قال القاضي أبو محمد : وهذا زال في حجة أبي بكر لأنه لم يقف بالمزدلفة ، وقد ذكر المهدوي أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر ، والذي تظاهرت به الأحاديث في هذا المعنى أن علياً رضي الله عنه أذن بتلك الآية يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر ، ثم رأى أنه لم يعلم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر ، وفي ذلك اليوم بعث معه أبو بكر من يعينه بالأذان بها كأبي هريرة وغيره ، وتتبعوا بها أيضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره ، فمن هنا يترجح قول سفيان إن { يوم } في هذه الآية بمعنى أيام ، بسبب ذلك قالت طائفة { يوم الحج الأكبر } عرفة حيث وقع أول الأذان وقالت طائفة أخرى : هو يوم النحر حيث وقع إكمال الأذان ، واحتجوا أيضاً بأنه من فاته الوقوف يوم عرفة فإنه يجزيه الوقوف ليلة النحر ، فليس يوم عرفة على هذا يوم الحج الأكبر .
قال القاضي أبو محمد : ولا حجة في هذا ، وقال سفيان بن عيينة : المراد أيام الحج كلها كما تقول يوم صفين ويوم الجمل يريد جميع أيامه ، وقال مجاهد { يوم الحج الأكبر } أيام منى كلها ، ومجامع المشركين حيث كانوا بذي المجاز وعكاظ حين نودي فيهم ألا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كما قال عثمان لعمر حين عرض عليه زواج حفصة : إني قد رأيت ألا أتزوج يومي هذا ، وكما ذكر سيبويه : تقول لرجل : وما شغلك اليوم ؟ وأنت تريد في أيامك هذه ، واختلف لم وصف بالأكبر ؟ فقال الحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن الحارث بن نوفل لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون وصادف أيضاً عيد اليهود والنصارى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف أن يصفه الله في كتابه بالكبر لهذا ، وقال الحسن أيضاً : إنما سمي أكبر لأنه حج فيه أبو بكر ونبذت فيه العهود .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو القول الذي يشبه نظر الحسن ، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وإمارة الإسلام بتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبذت فيه العهود وعز فيه الدين وذل الشرك ، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج عتاب بن أسيد{[5505]} كان أمر العرب على أوله ، فكل حج بعد حج أبي بكر فمتركب عليه فحقه لهذا أن يسمى أكبر ، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره : الحج أكبر بالإضافة إلى الحج الأصغر وهي العمرة ، وقال الشعبي : بالإضافة إلى العمرة في رمضان فإنها الحج الأصغر ، وقال مجاهد : الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد ، وهذا ليس من هذه الآية في شيء ، وقد تقدم ما ذكره منذر بن سعيد ويتجه أن يوصف بالأكبر على جهة المدح لا بإضافة إلى أصغر معين ، بل يكون المعنى الأكبر من سائر الأيام فتأمله ، واختصار ما تحتاج إليه هذه الآية على ما ذكر مجاهد وغيره من صورة تلك الحال ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح مكة سنة ثمان ، فاستعمل عليها عتاب بن أسيد وقضى أمر حنين والطائف وانصرف إلى المدينة فأقام بها حتى خرج إلى تبوك ، ثم انصرف من تبوك في رمضان سنة تسع فأراد الحج ثم نظر في أن المشركين يحجون في تلك السنة ويطوفون عراة فقال لا أريد أن أرى ذلك ، فأمر أبا بكر على الحج بالناس وأنفذه ، ثم أتبعه علي بن أبي طالب على ناقته العضباء ، وأمره أن يؤذن في الناس بأربعة أشياء ، وهي :( لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، وفي بعض الروايات ولا يدخل الجنة كافر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته ){[5506]} ، وفي بعض الروايات ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله أربعة أشهر يسيح فيها ، فإذا انقضت ف { إن الله بريء من المشركين ورسوله } .
قال القاضي أبو محمد : وأقول : إنهم كانوا ينادون بهذا كله ، فهذا للذين لهم عهد وتحسس منهم نقضه ، والإبقاء إلى المدة لمن لم يخبر منه نقض ، وذكر الطبري أن العرب قالت يومئذ : نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب ، فلام بعضهم بعضاً وقالوا ما تصنعون وقد أسلمت قريش ؟ فأسلموا كلهم ولم يسح أحد .
قال القاضي أبو محمد : وحينئذ دخل الناس في دين الله أفواجا ً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر علياً أن يقرأ على الناس الأربعين آية صدر سورة براءة قبل ثلاثين ، وقيل عشرين ، وفي بعض الروايات عشر آيات ، وفي بعضها تسع آيات ، ذكرها النقاش{[5507]} ، وقال سليمان بن موسى الشامي ثمان وعشرون آية ، فلحق أبا بكر في الطريق فقال له أبو بكر : أمير أو مأمور ، فقال بل مأمور فنهضا حتى بلغا الموسم ، فلما خطب أبو بكر بعرفة : قال : قم يا علي ، فأدِّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام علي ففعل ، قال ثم وقع في نفسي أن جميع الناس لم يشاهدوا خطبة أبي بكر ، فجعلت أتتبع الفساطيط يوم النحر ، وقرأ جمهور الناس «أن الله بريء » بفتح الألف على تقدير بأن الله ، وقرأ الحسم والأعرج : «إن الله » بكسر الألف على القطع ، إذ الأذان في معنى القول ، وقرأ جمهور الناس «ورسولُه » بالرفع على الابتداء وحذف الخبر «ورسوله بريء منهم » ، هذا هو عند شيخنا الفقيه الأستاذ أبي الحسن بن الباذش{[5508]} رحمه الله معنى العطف على الموضع ، أي تؤنس بالجملة الأولى التي هي من ابتداء وخبر فعطفت عليها هذه الجملة ، وقيل : هو معطوف على موضع المكتوبة قبل دخول «أن » التي لا تغير معنى الابتداء بل تؤكده وإذ قد قرئت بالكسر{[5509]} لأنه لا يعطف على موضع «أن » بالفتح ، وانظره فإنه مختلف في جوازه ، لأن حكم «أن » رفع حكم الابتداء إلا في هذا الموضع وما أشبهه ، وهذا قول أبي العباس وأبي علي رحمهما الله ، ومذهب الأستاذ{[5510]} على مقتضى كلام سيبويه أن لا موضع لما دخلت عليه «أن » إذ هو معرب قد ظهر فيه عمل العامل ولأنه لا فرق بين «أن » وبين ليت ولعل ، والإجماع أن لا موضع لما دخلت عليه هذه{[5511]} ، وقيل : عطف على الضمير المرفوع الذي في «بريء » ، وحسن ذلك أن المجرور قام مقام التوكيد ، كما قامت «لا » في وقوله تعالى :{ ما أشركنا ولا آباؤنا }{[5512]} وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر «رسولَه » بالنصب عطفاً على لفظ المكتوبة ، وبهذه الآية امتحن معاوية أبا الأسود حتى وضع النحو إذ جعل قارئاً يقرأ بخفض «ورسولِه » ، والمعنى في هذه الآية بريء من عهودهم وأديانهم براءة عامة تقتضي المحارجة وإعمال السيف ، وقوله { فإن تبتم } أي عن الكفر ووعدهم مع شرط التوبة وتوعدهم مع شرط التولي ، وجاز أن تدخل البشارة في المكروه لما جاء مصرحاً به مرفوع الأشكال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} يعني يوم النحر، وإنما سمى الحج الأكبر؛ لأن العمرة هي الحج الأصغر، وقال: {أن الله برئ من المشركين ورسوله} من العهد، {فإن تبتم} يا معشر المشركين من الشرك، {فهو خير لكم} من الشرك، {وإن توليتم}، يقول: إن أبيتم التوبة فلم تتوبوا، {فاعلموا أنكم غير معجزي الله}، خوفهم كما خوف أهل العهد أنكم أيضا غير سابقي الله بأعمالكم الخبيثة حتى يجزيكم بها، ثم قال: {وبشر الذين كفروا} بتوحيد الله {بعذاب أليم} يعني وجيع...
عن مالك، أن يوم الحج الأكبر، يوم النحر... قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: لا نشك أن الحج الأكبر يوم النحر، وذلك لأنه اليوم الذي ترمى فيه الجمرة، وينحر فيه الهدي وتُراق فيه الدماء، وهذا اليوم الذي ينقضي فيه الحج، من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل الفجر أدرك الحج، وهو انقضاء الحج. وهو الحج الأكبر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإعلام من الله ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر...
وأما قوله:"يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ" فإنه قيل اختلافا بين أهل العلم؛ فقال بعضهم: هو يوم عرفة... وقال آخرون: هو يوم النحر... وقال آخرون: معنى قوله: "يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ": حين الحجّ الأكبر ووقته... وبعد: فإن اليوم إنما يضاف إلى معنى الذي يكون فيه، كقول الناس: يوم عرفة، وذلك يوم وقوف الناس بعرفة، ويوم الأضحى، وذلك يوم يضحون فيه ويوم الفطر، وذلك يوم يفطرون فيه وكذلك يوم الحجّ، يوم يحجون فيه. وإنما يحجّ الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر، لأن في ليلة نهار يوم النحر الوقوف بعرفة كان إلى طلوع الفجر، وفي صبيحتها يعمل أعمال الحجّ فأما يوم عرفة فإنه وإن كان الوقوف بعرفة فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، والحجّ كله يوم النحر.
وأما ما قال مجاهد من أن يوم الحجّ إنما هو أيامه كلها، فإن ذلك وإن كان جائزا في كلام العرب، فليس بالأشهر الأعرف في كلام العرب من معاينه، بل غلب على معنى اليوم عندهم أنه من غروب الشمس إلى مثله من الغد، وإنما محمل تأويل كتاب الله على الأشهر الأعرف من كلام من نزل الكتاب بلسانه.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل لهذا اليوم: يوم الحجّ الأكبر؛ فقال بعضهم: سمي بذلك لأن ذلك كان في سنة اجتمع فيها حج المسلمين والمشركين... وقال آخرون: الحجّ الأكبر: القران، والحجّ الأصغر: الإفراد... وقال آخرون: الحجّ الأكبر: الحجّ، والحجّ الأصغر: العمرة... عن الشعبي، قال: كان يقال: الحجّ الأصغر: العمرة في رمضان...
وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال: الحجّ الأكبر الحجّ لأنه أكبر من العمرة بزيادة عمله على عملها، فقيل له الأكبر لذلك. وأما الأصغر فالعمرة، لأن عملها أقلّ من عمل الحجّ، فلذلك قيل لها الأصغر لنقصان عملها عن عمله.
وأما قوله: "أنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ "فإن معناه: أن الله بريء من عهد المشركين ورسوله بعد هذه الحجة. ومعنى الكلام: وإعلام من الله ورسوله إلى الناس في يوم الحجّ الأكبر، أن الله ورسوله من عهد المشركين بريئان... أي بعد الحجة.
"فإنْ تُبْتُمْ فهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإنْ تَوَلّيْتُمْ فاعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أليمٍ": يقول تعالى: فإن تبتم من كفركم أيها المشركون، ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، فالرجوع إلى ذلك خير لكم من الإقامة على الشرك في الدنيا والآخرة. "وإنْ تَوَلّيْتُمْ" يقول: وإن أدبرتم عن الإيمان بالله وأبيتم إلا الإقامة على شرككم. "فاعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجِزي اللّهِ" يقول: فأيقنوا أنكم لا تفيتون الله بأنفسكم من أن يحلّ بكم عذابه الأليم وعقابه الشديد على إقامتكم على الكفر، كما فعل بذويكم من أهل الشرك، من إنزال نقمه به وإحلاله العذاب عاجلاً بساحته.
"وَبَشّر الّذِينَ كَفَرُوا" يقول: وأعلم يا محمد الذين جحدوا نبوّتك وخالفوا أمر ربهم بعذاب موجع يحلّ بهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنْ عادوا إلى البابِ لم يقطعْ رجاءهم، ومدَّ إلى حدِّ وضوحِ العُذْرِ إرجاءَهم. وبيَّن أنهم إِنْ أَصَرُّوا على عُتُوِّهم فإلى ما لا يُطِيقون من العذاب مِنْقَلبهُم، وفي النار مثواهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: أي فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت: تلك إخبار بثبوت البراءة. وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت. فإن قلت: لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت: لأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأمّا الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث...
اعلم أن قوله: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} جملة تامة، مخصوصة بالمشركين، وقوله: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} جملة أخرى تامة معطوفة على الجملة الأولى وهي عامة في حق جميع الناس، لأن ذلك مما يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك من حيث كان الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعا، فيجب على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يكون فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه، فأمر الله تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر، وهو الجمع الأعظم ليصل ذلك الخبر إلى الكل ويشتهر ثم قال: {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} في الآخرة لكي لا يظن أن عذاب الدنيا لما فات وزال، فقد تخلص عن العذاب، بل العذاب الشديد معد له يوم القيامة، ولفظ البشارة ورد ههنا على سبيل استهزاء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان كأنه قيل: ما هذا الإعلام؟ قال مفسراً له مصرحاً بما هو المقصود لئلا يقع فيه نوع لبس حاذفاً الصلة إعلاماً بأن هذا مستأنف على تقدير سؤال سائل، {أن الله} أي الذي له الغنى المطلق والقوة الباهرة {بريء من المشركين*} أي الذين لا عهد لهم خاص فلا مانع من قتالهم ولما أعلم سبحانه بالبراءة عنها، سبب عنها مرغباً مرهباً قوله التفاتاً إلى الخطاب: {فإن تبتم} أي عن الكفر والغدر {فهو} أي ذلك الأمر العظيم وهو المتاب {خير لكم} أي لأنكم تفوزون في الوفاء بالأمان في الدنيا، وفي الإسلام بالسلامة في الدارين. ولما كانت التوبة محبوبة بالطبع لما لها من النفع قال: {وإن توليتم} أي كلفتم أنفسكم خلاف ما يشتهي من التوبة موافقة للفطرة الأولى، وأصررتم على الكفر والغدر اتباعاً للهوى المكتسب من خباثة الجبلة ورداءة الأخلاط التي قعدت بالروح عن أوجها الأول إلى الحضيض الأسفل {فاعلموا} أي علماً لا شبهة فيه {أنكم غير معجزي الله}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، مصرحة بالتبليغ الصريح الجهري العام للبراءة من المشركين، أي من عهودهم وسائر خرافات شركهم وضلالاته، ومبينة لوقته الذي لا يسهل تعميمه إلا فيه، وهو يوم الحج الأكبر، وفي تعيينه خلاف سيذكر مع ترجيح أنه عيد النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج وأركانه، ويجتمع الحاج فيه لإتمام واجبات المناسك وسننها في منى. والأذان النداء الذي يطرق الآذان، بالإعلام بما ينبغي أن يعلمه الخاص والعام، وهو اسم من التأذين، قال تعالى: {فأذن مؤذن بينهم أيتها العير إنكم لسارقون} [يوسف:70]، ومنه الأذان للصلاة. وأذن بها أعلم، وآذنه بالشيء إيذانا أعلمه به. وأذن بالشيء (كعلم) علمه، وأذن له (كتعب) استمع. وأعاد التصريح في هذا الأذان بكونه من الله باسم الذات، ومن رسوله بصفة التبليغ الذي تقتضيه الرسالة، كما صرح بهما في البراءة، وصرح في الموضعين بذكر المشركين بعنوان الشرك ووصفه، وذلك لتأكيد هذا الحكم، وتأكيد تبليغه من جميع وجوهه.
ثم أكد ما يجب أن يبلغوه من ذلك بما أوجب أن يخاطبوا به من غير تأخير بقوله: {فإن تبتم} أي قولوا لهم: فإن تبتم بالرجوع عن شرككم وما زينه لكم من الخيانة والغدر بنقض العهود، وقبلتم هداية الإسلام.
{فهو خير لكم} في الدنيا والآخرة؛ لأن هداية الإسلام هي السبب لسعادتهما.
{وإن توليتم} أي أعرضتم عن إجابة هذه الدعوة إلى التوبة.
{فاعلموا أنكم غير معجزي الله} أي غير فائتيه بأن تفلتوا من حكم سننه ووعده لرسله والمؤمنين بالنصر كما تقدم آنفا.
{وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نبأ عن الغيب الذي لا يمكن علمه إلا بوحي الله عز وجل، وقد تقدم في هذا التفسير أن البشارة ما يؤثر في البشرة من الأنباء، إما بالتهلل وإشراق الوجه وهو السرور الذي تنبسط به أسارير الجبهة وتتمدد، وإما بالعبوس والبسور وتقطيب الوجه من الكدر أو الحزن أو الخوف. وغلب في الأول حتى ذهب الأكثرون إلى كونه حقيقة فيه، وأن استعماله فيما يسوء ويكدر إنما يقال من باب التهكم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يبين الموعد الذي تعلن فيه هذه البراءة وتبلغ إلى المشركين لينذروا بها وبالموعد المضروب فيها:
{وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر: أن الله بريء من المشركين ورسوله. فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم}..
ويوم الحج الأكبر اختلفت الروايات في تحديده: أهو يوم عرفة أم يوم النحر. والأصح أنه يوم النحر: والأذان البلاغ؛ وقد وقع للناس في الموسم؛ وأعلنت براءة الله ورسوله من المشركين كافة -من ناحية المبدأ- وجاء الاستثناء في الإبقاء على العهد إلى مدته في الآية التالية.. والحكمة واضحة في تقرير المبدأ العام ابتداء في صورة الشمول؛ لأنه هو الذي يمثل طبيعة العلاقات النهائية. أما الاستثناء فهو خاص بحالات تنتهي بانتهاء الأجل المضروب. وهذا الفهم هو الذي توحي به النظرة الواسعة لطبيعة العلاقات الحتمية بين المعسكر الذي يجعل الناس عبيداً لله وحده، والمعسكرات التي تجعل الناس عبيداً للشركاء، كما أسلفنا في التقديم للسورة والتقديم لهذا المقطع منها كذلك.
ومع إعلان البراءة المطلقة يجيء الترغيب في الهداية والترهيب من الضلالة:
{فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم}..
وهذا الترهيب وذلك الترغيب في آية البراءة؛ يشيران إلى طبيعة المنهج الإسلامي. إنه منهج هداية قبل كل شيء. فهو يتيح للمشركين هذه المهلة لا لمجرد أنه لا يحب أن يباغتهم ويفتك بهم متى قدر -كما كان الشأن في العلاقات الدولية ولا يزال!- ولكنه كذلك يمهلهم هذه المهلة للتروي والتدبر، واختيار الطريق الأقوم؛ ويرغبهم في التوبة عن الشرك والرجوع إلى الله، ويرهبهم من التولي، وييئسهم من جدواه، وينذرهم بالعذاب الأليم في الآخرة فوق الخزي في الدنيا. ويوقع في قلوبهم الزلزلة التي ترجها رجاً لعل الركام الذي ران على الفطرة أن ينفض عنها، فتسمع وتستجيب!
ثم.. هو طمأنة للصف المسلم، ولكل ما في قلوب بعضه من مخاوف ومن تردد وتهيب؛ ومن تحرج وتوقع.
فالأمر قد صار فيه من الله قضاء. والمصير قد تقرر من قبل الابتداء!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والأذانُ اسم مصدر آذنه، إذا أعلمه بإعلان، مثل العطاء بمعنى الإعطاء، والأمان بمعنى الإيمان، فهو بمعنى الإيذان.
وإضافة الأذان إلى الله ورسوله دُون المسلمين، لأنّه تشريع وحكم في مصالح الأمّة، فلا يكون إلاّ من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر للمسلمين بأن يأذنوا المشركين بهذه البراءة، لئلا يكونوا غادرين، كما قال تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 58]. والمراد بالناس جميع الناس من مؤمنين ومشركين لأن العلم بهذا النداء يَهُمّ الناس كلّهم.
ويوم الحجّ الأكبر: قيل هو يوم عرفة، لأنّه يوم مجتمع الناس في صعيد واحد
و {الأكبر} بالجرّ نعت للحجّ، باعتبار تجزئته إلى أعمال، فوُصف الأعظم من تلك الأعمال بالأكبر، ويظهر من اختلافهم في المراد من الحجّ الأكبر أنّ هذا اللفظ لم يكن معروفاً قبل نزول هذه الآية فمن ثم اختلف السلف في المراد منه.
وهذا الكلام إنشاءٌ لهذا الأذان، موقّتاً بيوم الحجّ الأكبر، فيؤوّل إلى معنى الأمر، إذ المعنى آذنوا الناس يوم الحجّ الأكبر بأنّ الله ورسوله بريئان من المشركين.
والمراد ب {الناس} جميع الناس الذين ضمّهم الموسم، ومن يبلغه ذلك منهم: مؤمنهم ومشركهم، لأنّ هذا الأذان ممَّا يجب أن يعلمه المسلم والمشرك، إذ كان حكمه يلزم الفريقين.
وقوله: {أن الله بريء من المشركين} يتعلّق ب {أذان} بحذف حرف الجرّ وهو باء التعدية أي إعلام بهذه البراءة المتقدّمة في قوله: {براءة من الله ورسوله} [التوبة: 1] فإعادتها هنا لأنّ هذا الإعلام للمشركين المعاهَدين وغيرهم، تقريراً لعدم غدر المسلمين، والآية المتقدّمة إعلام للمسلمين.
وجاء التصريح بفعل البراءة مرّة ثانية دون إضمار ولا اختصار بأن يقال: وأذان إلى الناس بذلك، أو بها، أو بالبراءة، لأنّ المقام مقام بيان وإطناب لأجل اختلاف أفهام السامعين فيما يسمعونه، ففيهم الذكّي والغبي، ففي الإطناب والإيضاح قطع لمعاذيرهم واستقصاء في الإبلاغ لهم.
وعُطف {ورسوله} بالرفع، عند القرّاء كلّهم: لأنّه من عطف الجملة، لأنّ السامع يعلم من الرفع أنّ تقديره: ورسولُه بريءٌ من المشركين، ففي هذا الرفع معنى بليغ من الإيضاح للمعنى مع الإيجاز في اللفظ، وهذه نكتة قرآنيّة بليغة،...
وممّا يجب التنبيه له: ما في بعض التفاسير أنّه روى عن الحسن قراءة {ورسوله} بالجرّ ولم يصحّ نسبتها إلى الحسن، وكيف يتصور جرّ {ورسوله} ولا عامل بمقتضي جرّه، ولكنّها ذات قصة طريفة: أنّ أعرابياً سمع رجلاً قرأ {أن الله بريء من المشركين ورسوله} بجرّ ورسولِه فقال الأعرابي: إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء. وإنّما أراد التورّكَ على القارىء، فلبَّبَه الرجل إلى عمر، فحكى الأعرابي قراءتَه فعندها أمر عمر بتعلّم العربية، وروي أيضاً أنّ أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر إلى علي. فكان ذلك سبب وضع النحو، وقد ذكرت هذه القصة في بعض كتب النحو في ذكر سبب وضع علم النحو.
وهذا الأذان قد وقع في الحجّة التي حجّها أبو بكر بالناس، إذ ألحق رسول الله عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر، موافياً الموسم ليؤذِّن ببراءة، فأذن بها علي يوم النحر بمنى، من أولها إلى ثلاثين أو أربعين آية منها، كذا ثبت في الصحيح والسنن بطرق مختلفة يزيد بعضها على بعض. ولعلّ قوله: « أو أربعين آية» شكّ من الراوي، فما ورد في رواية النسائي، أي عن جابر: أنّ علياً قرأ على الناس بَراءة حتّى ختمها، فلعلّ معناه حتّى ختم ما نزل منها ممّا يتعلّق بالبراءة من المشركين، لأنّ سورة براءة لم يتم نزولها يومئِذ، فقد ثبت أنّ آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي آخر آية من سورة براءة.
وإنّما ألحق النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر الصديق، لأنه قيل لرسول الله إنّ العرب لا يرون أن يَنقض أحد عهدَه مع مَن عاهده إلاّ بنسفه أو برسول من ذي قرابة نسبه، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يترك للمشركين عذراً في علمهم بنبذ العهد الذي بينه وبينهم.
وروي: أنّ علياً بعث أبا هريرة يطوف في منازل قبائل العرب من منى، يصيح بآيات براءة حتى صحل صوته. وكان المشركون إذا سمعوا ذلك يقولون لعلي « سترون بعد الأربعة الأشهر فإنّه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلاّ الطعن والضرب».
{فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب اليم}
التفريع على جملة: {أن الله بريء من المشركين}، فيتفرّع على ذلك حالتان: حالة التوبة، وحالة التولي.
والخطاب للمشركين الذين أوذنوا بالبراءة، والمعنى: فإنْ آمنتم فالإيمان خير لكم من العهد الذي كنتم عليه، لأنّ الإيمان فيه النجاة في الدنيا والآخرة، والعهد فيه نجاة الدنيا لا غير. والمراد بالتولي: الإعراض عن الإيمان. وأريد بفعل {تولّيتم} معنى الاستمرار، أي: إن دمتم على الشرك فاعلموا أنكم غير مفلتين من قدرة الله، أي اعلموا أنّكم قد وقعتم في مكنة الله، وأوشكتم على العذاب.
وجملة: {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} معطوفة على جملة: {وأذن من الله ورسوله} لما تتضمنّه تلك الجملة من معنى الأمر، فكأنّه قيل: فآذنوا الناس ببراءة الله ورسوله من المشركين، وبأنّ من تاب منهم فقد نجا ومن أعرض فقد أوشك على العذاب، ثم قال: وبشر المعرضين المشركين بعذاب أليم.
و (البشارة) أصلها الإخبار بما فيه مسرّة، وقد استعيرت هنا للإنذار، وهو الإخبار بما يسوء، على طريقة التهكّم، كما تقدّم في قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} في سورة آل عمران (21).
والعذاب الأليم: هو عذاب القتل، والأسر، والسبي، وفَيء الأموال، كما قال تعالى: {وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} [التوبة: 26] فإنّ تعذيبهم يوم حنين بعضه بالقتل، وبعضه بالأسر والسبي وغنم الأموال، أي: أنذر المشركين بأنّك مقاتلهم وغالبهم بعد انقضاء الأشهر الحرم، كما يدلّ عليه قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] الآية.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وقوله تعالى: {فإن تبتم فهو خير لكم} يتضمن الإشارة إلى مبدأ أساسي في الإسلام، هو أن الإسلام يجب ما قبله، وذلك لما انبنى عليه من سماحة ورحمة وعفو، فمهما اقتحم المشركون والكفار من المعاصي والجرائم، وارتكبوا من الموبقات والمآثم، ثم أسلموا وجوههم لله، إلا ونالتهم المغفرة، وقبلت منهم التوبة، ولم يؤاخذوا بما سلف: {عفا الله عما سلف} والحكمة في ذلك تأليفهم على الملة، وتسهيل دخولهم في الدين، حتى ينيبوا إلى الله، ويسلموا وجوههم إليه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وأراد الله لرسوله أن يعلن هذه البراءة بصوت عالٍ في الموسم الأكبر، ليسمعه الناس كلهم، فيكون حجّةً عليهم، في ما أراد الله دعوتهم إليه، أو ما كلفهم بالقيام به، ليكون ذلك هو الحدّ الفاصل بين مرحلتين: مرحلة الصراع بين التوحيد والشرك، في حروب مختلفةٍ في نتائجها بين النصر لهذا والهزيمة لذاك، والتكافؤ في بعض الحالات، ومرحلة هيمنة التوحيد على الساحة كلها، فلا يرتفع إلاّ صوته، ولا تتحرك إلا مسيرته وسراياه، ولا تحكم الناس إلا شريعته، ليفهم الجميع أنّ عهداً جديداً قد بدأ، وأن النتيجة الحاسمة بانتصار الإسلام قد فرضت نفسها على الجوّ كله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي الحقيقة، أنّ الله سبحانه يريد في هذا الإِعلان العام في مكّة المكرمة، وفي ذلك اليوم العظيم، أن يوصد كل ذريعة يتذرع بها المشركون والأعداء، ويقطع ألسنة المفسدين، لئلا يقولوا: إنّهم استغفلوا في الحملة أو الهجوم عليهم، وإن ذلك ليس من الشّهامة والرجولة. ثمّ يتوجه الخطاب في الآية إِلى المشركين أنفسهم ترغيباً وترهيباً، لعلهم يهتدون، إذ تقول الآية: (فإن تبتم فهو خير لكم). أي أنّ الاستجابة لرسالة التوحيد فيها صلاحكم وفيها خير لكم ولمجتمعكم ودنياكم وآخرتكم، فلو تدبّرتم بجد وصدق لرأيتم أن قبول الدعوة هو البلسم الشافي لكلّ جراحاتكم وليس في الأمر منفعة لله أو لرسوله.