وخلا هذا الوعيد والتهديد من فرعون وملئه لموسى - عليه السلام - ، قيض الله - تعالى - لموسى رجلا مؤمنا من آل فرعون كان يخفى إيمانه . هذا الرجل أخذ يدافع عن موسى دفاعا حكيما مؤثرا ، يحمل الترغيب تارة والترهيب أخرى ، والإِرشاد تارة والتأنيب أخرى . . ويحكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فيقول :
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ . . . } .
قال الإِمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما حكى عن موسى - عليه السلام - أنه ما زاد فى دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله ، بين أنه - تعالى - قيض إنسانا أجنبيا غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه ، وبالغ فى تسكين تلك الفتنة ، واجتهد فى إزالة ذلك الشر .
ثم قال - رحمه الله - يقول مصنف هذا الكتاب : ولقد جريت فى أحوال نفسى أنه كلما قصدنى شرير بشر ولم أتعرض له ، وأكتفى بتفويض ذلك الأمر إلى الله ، فإنه - سبحانه - يقيض أقواما لا أعرفهم ألبتة . يبالغون فى دفع ذلك الشر . .
وظاهر الآية الكريمة يفيد أن هذا الرجل المؤمن كان من حاشية فرعون بدليل قوله - تعالى - : { مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } ولم يكن من بنى إسرائيل .
وقد رجح ابن جرير - رحمه الله - ذلك فقال : وأولى القولين فى ذلك بالصواب عندى : القول الذى قاله السدى من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون ، ولذا فقد أصغى لكلامه واستمع منه ما قاله ، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله . . ولو كان إسرائيليا لكان حريا أن يعاجل هذا القائل له ولملئه بالعقوبة على قوله ، لأنه لم يكن ستنصح بنى إسرائيل لاعتداده إياهم أعداء له . . ولكنه لما كان من ملأ قومه ، استمع إليه ، وكف فرعون عما كان قد هم به من قتل موسى . .
قالوا : وهذا الرجل المؤمن هو الذى نصح موسى - عليه السلام - بقوله : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين } وكان اسمه " حزقيل " او " حبيب " .
أى : وقال رجل مؤمن من آل فرعون وحاشيته ، وكان يكتم إيمانه عنهم ، حتى لا يصيبه أذى منهم ، فعندما سمع فرعون يقول : { ذروني أَقْتُلْ موسى } قال لهم : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } .
أى : أتقتلون رجلا لأنه يقول ربى الله وحده ، وقد جاءكم بالحجج البينات ، وبالمعجزات الواضحة من عند ربكم ، كدليل على صدقه فيما يبلغه عنه .
فقوله : { أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله } فى موضع المفعول لأجله . أى : أتقتلونه من أجل قوله هذا . وجملة { وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } حالية من فاعل يقول وهو موسى - عليه السلام - .
والمقصود بهذا الاستفهام : الإِنكار عليهم والتبكيت لهم ، حيث قصدوا قتل رجل كل ذنبه أنه عبد الله - تعالى - وحده وقد جاءهم بالمعجزات الواضحات الدالة على صحة فعله وقوله .
قال الإِمام ابن كثير : وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط ، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون { ذروني أَقْتُلْ موسى }
فأخذت الرجل غضبه لله - تعالى - و " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " اللهم إلا ما رواه البخارى فى صحيحه حيث قال :
حدثنا على بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعى ، حدثنى عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرنى بأشد شئ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة ، إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه فى عنقه ، فخنقه خنقا شديدا . فأقبل أبو بكر - رضى الله عنه - فأخذ بمنكبه ودفع عن النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " .
وقال القرطبى : وعن على - رضى الله عنه - قال : اجتمعت قريش بعد وفاة أبى طالب بثلاث : فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل هذا يجؤه - أى يضربه - ، وهذا يُتَلْتِلهُ - أى : يحركه تحريكا شديدا - فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان ، فأقبل يجأ هذا ويتلتل ذا ، ويقول بأعلى صوته : ويلكم : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله ، والله إنه لرسول الله ، فقطعت إحدى ضفيرتى أبى بكر يومئذ .
ثم يحكى القرآن أن ذلك الرجل المؤمن ، لم يكتف بالإِنكار على قومه قصدهم موسى بالقتل بل أخذ فى محاولة إقناعهم بالعدول عن هذا القصد بشتى الأساليب والحجج فقال : { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ . . } .
أى : أنه قال لهم : إن كان موسى - على سبيل الفرض - كاذبا فيما يقوله ويفعله فعليه وحده يقع ضرر كذبه ، وليس عليكم منه شئ ، وإن كان صادقا فيما يقوله ويفعله فعليه وحده يقع ضرر كذبه ، وليس عليكم منه شئ ، وإن كان صادقا فيما يقوله ويفعله ، فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذى يعدكم به من سوء عاقبة مخالفة ما أتاكم به من عند ربه . .
فأنت ترى أن الرجل كان فى نهاية الحكمة والإِنصاف وحسن المنطق ، فى مخاطبته لقومه ، حيث بين لهم أن الأمر لا يخرج عن فرضين ، وكلاهما لا يوجب قصد موسى - عليه السلام - بالقتل .
ورحم الله صاحب الكشاف : فقد أجاد عند تفسير لهذه الآية فقال ما ملخصه : وقوله : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله . . . } هذا إنكار عظيم منه ، وتبكيت شديد لهم ، كأنه قال : أترتكبون الفعلة الشنعاء التى هى قتل نفس محرمة ، وما لكم علة قط فى ارتكابها إلا كلمة الحق التى نطق بها وهى قوله { رَبِّيَ الله } . .
ثم أخذ فى الاحتجاج عليهم على طريقة التقسيم فقال : لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا ، فإن يك كاذبا فعليه يعود كذبه ولا يتخطاه ضرره ، وإن يك صادقا يصبكم بعض ما يعدكم به إن تعرضتم له .
فإن قلت : لم قال : { بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } وهو - أى موسى - نبى صادق ، لابد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه ؟
قلت : لأنه احتاج فى مقاولة خصوم موسى ومنا كريه ، إلى أن يلاوصهم - أى يحايلهم - ويداريهم ، ويسلك معهم طريق الإِنصاف فى القول ويأتيهم من جهة المناصحة ، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله ، وأدخل فى تصديقهم له وقبولهم منه ، فقال { وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } وهو كلام المنصف فى مقاله ، غير المشتط فيه ، ليسمعوا منه ولا يردوا عليه ، وذلك أنه حين فرضه صادقا ، فقد أثبت أنه صادق فى جميع ما يعد ، ولكنه أردفه بقوله : { يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } ليهضمه بعض حقه فى ظاهر الكلام ، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا ، فضلا عن أن يتعصب له ، وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل .
ثم أرشد الرجل المؤمن الحصيف قومه إلى سنة من سنن الله التى لا تتغير فقال : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } .
أى : إن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أنه - سبحانه - لا يهدى إلى الحق والصواب ، من كان مسرفا فى أموره ، متجاوزا الحدود التى شرعها الله - تعالى - ومن كان كذابا فى إخباره عن الله - تعالى - ، ولو كان موسى مسرفا أو كذابا ، لما أيده الله - تعالى - بالمعجزات الباهرة . وبالحجج الساطعة الدالة على صدقه .
فالجملة الكريمة إرشاد لهم عن طريق خفى إلى صدق موسى فيما يبلغه عن ربه ، وتعريض بما عليه فرعون من ظلم وكذب .
قال الجمل فى حاشيته : فالجملة الكريمة كلام ذو وجهين نظرا لموسى وفرعون .
الوجه الأول : أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى ، والمعننى : إن الله هدى موسى إلى الإِتيان بالمعجزات الباهرة ، ومن هداه الله إلى ذلك لا يكون مسرفا ولا كذابا .
الوجه الثانى : أن يكون المراد أن فرعون مسرف فى عزمه على قتل موسى . وكاذب فى ادعائه الألوهية ، والله لا يهدى من كان كذلك . . .
المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبْطيًا من آل فرعون .
قال السدي : كان ابن عم فرعون ، ويقال : إنه الذي نجا مع موسى . واختاره ابن جرير{[25490]} ، وَرَدَّ قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيليًّا ؛ لأن فرعون انفعل لكلامه واستمعه ، وكف عن قتل موسى ، عليه السلام ، ولو كان إسرائيليًّا لأوشك أن يعاجل{[25491]} بالعقوبة ؛ لأنه منهم {[25492]} .
وقال ابن جُرَيج عن ابن عباس : لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون ، والذي قال : { يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [ القصص : 20 ] رواه ابن أبي حاتم .
وقد كان هذا الرجلُ يكتم إيمانه عن قومه القبط ، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون : { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى } ، فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل ، و " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " ، كما ثبت بذلك الحديث ، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } [ أي : لأجل أن يقول ربي الله ] {[25493]} ، اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه حيث قال :
حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، حدثني{[25494]} عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد شيء مما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عُقْبة بن أبي مُعَيط ، فأخذ بمَنْكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولَوَى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقًا شديدا ، فأقبل أبو بكر ، رضي الله عنه ، فأخذ بمنكبة {[25495]} ودَفَع عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } . انفرد به البخاري من حديث الأوزاعي قال : وتابعه محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عروة ، عن أبيه ، به {[25496]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا عَبْدة عن هشام - يعني ابن عروة - عن أبيه ، عن عمرو بن العاص أنه سُئِل : ما أشد ما رأيت قريشًا بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : مر بهم ذات يوم فقالوا له : أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ فقال : " أنا ذاك " فقاموا إليه ، فأخذوا بمجامع ثيابه ، فرأيتُ أبا بكر محتضنه من ورائه ، وهو يصيح بأعلى صوته ، وإن عينيه ليسيلان ، وهو يقول : يا قوم ، { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } حتى فرغ من الآية كلها .
وهكذا رواه النسائي من حديث عبدة ، فجعله من مسند عمرو بن العاص ، رضي الله عنه {[25497]} .
وقوله : { وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : كيف تقتلون رجلا لكونه يقول : " ربي الله " ، وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق ؟ ثم تَنزل معهم في المخاطبة فقال : { وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } يعني : إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به ، فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه ، فلا تؤذوه ، فإن يك كاذبا فإن الله سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والآخرة ، وإن يك صادقا وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم ، فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة ، فمن الجائز عندكم أن يكون صادقا ، فينبغي على هذا ألا تتعرضوا له ، بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه .
وهكذا أخبر الله [ تعالى ]{[25498]} عن موسى ، عليه السلام ، أنه طلب من فرعون وقومه الموادعة في قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ . أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ . وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ . وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } [ الدخان : 17 - 21 ] وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش أن يتركوه يدعو إلى الله [ تعالى ] {[25499]} عباد الله ، ولا يمسوه بسوء ، وأن يصلوا ما بينه وبينهم من القرابة في ترك أذيته ، قال الله تعالى : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [ الشورى : 23 ] أي : إلا ألا تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة ، فلا تؤذوني وتتركوا بيني وبين الناس . وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية ، وكان فتحًا مبينًا .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } أي : لو كان هذا الذي يزعم أن الله أرسله إليكم كاذبا كما تزعمون ، لكان أمره بينا ، يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله ، كانت تكون في غاية الاختلاف والاضطراب ، وهذا نرى أمره سديدا ومنهجه مستقيما ، ولو كان من المسرفين الكذابين لما هداه الله ، وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله .
{ وقال رجل مؤمن من آل فرعون } من أقاربه . وقيل { من } متعلق بقوله : { يكتم إيمانه } والرجل إسرائيلي أو غريب موحد كان ينافقهم . { أتقتلون رجلا } أتقصدون قتله . { أن يقول } لأن يقول ، أو وقت أن يقول من غير روية وتأمل في أمره . { ربي الله } وحده وهو في الدلالة على الحصر مثل صديقي زيد . { وقد جاءكم بالبينات } المتكثرة الدالة على صدقه من المعجزات والاستدلالات . { من ربكم } أضافه إليهم بعد ذكر البينات احتجاجا عليهم واستدراجا لهم إلى الاعتراف به ، ثم أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط فقال : { وإن يك كاذبا فعليه كذبه } لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله . { وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم } فلا أقل من أن يصيبكم بعضه ، وفيه مبالغة في التحذير وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ، ولذلك قدم كونه كاذبا أو يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده ، كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم وتفسير ال{ بعض } بالكل كقول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها *** أو يرتبط بعض النفوس حمامها
مردود لأنه أراد بال { بعض } نفسه . { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب } احتجاج ثالث ذو وجهين :
أحدهما : أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات .
وثانيهما : أن من خذله الله أهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله . ولعله أراد به المعنى الأول وخيل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم ، وعرض به لفرعون بأنه { مسرف كذاب } لا يهديه الله سبيل الصواب وطريق النجاة .