وبعد أن بين - سبحانه - ميراث الأولاد والأبوين شرع فى بيان ميراث الأزواج فقال - تعالى - { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ } .
أى : ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم من المال إن لم يكن لهؤلاء الزوجات الموروثات ولد ذكرا كان أو أنثى ، واحدا كان أو متعددا ، منكم كان أو من غيركم فإن كان لهن ولد فلكم أيها الازواج الربع مما تركن من المال .
وبهذا نرى أن للزوج فى الميراث حالتين : حالة يأخذ فيها نصف ما تركته زوجته المتوفاة من مال إن لم تترك خلفها ولدا من بطنها أو من صلب نبيها أو بنيها . . . إلخ ، فإن تركت ولدا على التفصيل السابق كان لزوجها ربع ما تركت من مال وتلك هى الحالة الثانية للزوج ، ويكون الباقى فى الصورتين لبقية الورثة .
وقوله { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } متعلق بكلتا الصورتين .
أى لكم ذلك أيها الرجال من بعد استخراج وصيتهن وقضاء ما عليهن من ديون .
ثم بين - سبحانه - نصيب الزوجة فقال { وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم } .
أى أن للزوجات ربع المال الذى تركه أزواجهن إذا لم يكن لهؤلاء الأزواج الأموال ولد من ظهورهم أو من ظهور بنيهم أو بنى بنيهم . . إلخ فإن ترك الأزواج من خلقهم ولدا فللزوجات ثمن المال الذى تركه أزواجهن ويكون المال الباقى فى الصورتين لبقية الورثة .
ونرى من هذا أن الزوجة على النصف فى التقدير من الزوج ، وهو قاعدة عامة فى قسمة الميراث بالنسبة للذكر والأنثى ، ولم يستثن إلا الإخوة لأم ، والأبوين فى بعض الأحوال .
وقوله { مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } متعلق بما قبله .
أى لكن ذلك أيتها الزوجات من بعد استخراج وصيتهم وقضاء ما عليهم من ديون .
ثم بين - سبحانه ، ميراث الإِخوة والأخوات لأم فقال - تعالى - : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امرأة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس فَإِن كانوا أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث } .
والكلالة ؛ هم القرابة من غير الأصول والفروع .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما الكلالة ؟ قلت : ينطلق على واحد من ثلاثة : على من لم يخلف ولدا ولا والدا وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد ، ومنه قولهم ما ورث المجد عن كلالة . كما تقول : ما صمت عن عى ، وما كف عن جبن .
والكلالة فى الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء ، قال الأعشى :
فآليت لا أرثى لها من كلالة . . . فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد لأنها بالإِضافة إلى قرابتها كالّة ضعيفة . عن أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - أنه سئل عن الكلالة فقال : الكلالة : من لا ولد له ولا والد .
والظاهر أن كلمة " كلالة هنا وصف للميت الموروث ، لأنها حال من نائب فاعل قوله : { يُورَثُ } وهو ضمير الميت الموروث . والتقدير . وإن كان رجل موروثا حال كونه كلالة . أى ؛ لم يترك ولدا ولا والدا . ويرى بعضهم أن كلمة هنا : وصف للوارث الذى ليس بولد ولا والد للميت . لأن هؤلاء الوارثين يتكللون الميت من جوانبه ، وليسوا فى عمود نسبه ، كالإِكليل يحيط بالرأس ، ووسط الرأس منه خال . من تكلله الشئ إذا أحاط به . فسمى هؤلاء الأقارب الذين ليسوا من أصول الميت أو من فروعه كلالة ، لأنهم أطافوا به من جوانبه لا من عمود نسبه . وعلى هذا الرأى يكون المعنى وإن كان رجل يورث حال كونه ذا وارث هو كلالة . أى أن وارثه ليس بولد ولا والد له .
والمراد بالإِخوة والأخوات هنا : الإِخوة والاخوات لأم ، بدليل قراءة سعد بن أبى وقاص : " وله أخ أو أخت من أم " . ويلد عليه - أيضا - أن الله - تعالى - ذكر ميراث الإِخوة مرتين : هنا مرة ، ومرة أخرى فى آخر آية من هذه السورة وهى قوله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } وقد جعل - سبحانه - فى الآية التى معنا للواحد السدس وللأكثر الثلث شركة ، وجعل فى الآية التى فى آخر السورة للأخت الواحد النصف . وللأثنتين الثلثين ، فوجب أن يكون الإِخوة هنا وهناك مختلفين دفعا للتعارض . ولأنه لما كان الإِخوة لأب وأم أو لأب فحسب أقرب من الإِخوة لأم ، وقد أعطى - سبحانه - الأخت والأختين والإِخوة فى آخر السورة نصيبا أوفر ، فقد وجب حمل الإِخوة فى آخر السورة على الأشقاء أو الإِخوة لأب . كما وجب حمل الإِخوة والأخوات هنا على الإِخوة لأم .
والمعنى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } أى : يورث من غير أصوله أو فروعه { أَو امرأة } أى : تورث كذلك من غير أصولها أو فروعها .
والضمير فى قوله { وَلَهُ } يعود لذلك الشخص الميت المفهوم من المقام . أو لواحد منهما - أى الرجل والمرأة - والتذكير للتغليب . أو يعود للرجل واكتفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فى هذا الحكم .
وقوله : { أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أى : من الأم فقط { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } أى : الأخ والأخت { السدس } مما ترك ذلك المتوفى من غير تفصيل للذكر على الأنثى . لأنهما يتساويان فى الإِدلاء إلى الميت بمحض الانوثة . { فَإِن كانوا } أى : الإِخوة والأخوات لأم ، أكثر من واحد فهم شركاء فى الثلث ، يقتسمونه فيما بينهم بالسوية بين ذكورهم وإناثهم ، والباقى من المال الموروث يقسم بين أصحاب الفروض والعصبات من الورثة .
وبذلك نرى أن الإِخوة والأخوات من الأم لهم حالتان :
إحداهما : أن يأخذ الواحد أو الواحدة السدس إذا انفردا .
والثانية : أن يتعدد الأخ لأم وفى هذه الحالة يكون نصيبهم الثلث يشتركون فيه بالسوية فلا فرق بين الذكر والأنثى .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَلِيمٌ } .
أى : هذه القسمة التى قسمها الله - تعالى - لكم بالنسبة للإِخوة للأم إنما تتم بعد تنفيذ وصية الميت وقضاء ما عليه من ديون ، من غير ضرار الورثة بوصيته أو دينه . وفى قوله { يوصى } قراءتان سبعيتان :
إحداهما بالبناء للمفعول أى { يوصى } - بفتح الصاد - فيكون قوله { غَيْرَ مُضَآرٍّ } حال من فاعل فعل مضمر يدل عليه المذكور . أى من بعد وصية يوصى بها أو دين حالة كون الموصى به أو الدين غير مضار ، أى غير متسبب فى ضرر الورثة .
والقراءة الثانية بالبناء للفاعل أى { يوصى } - بكسر الصاد - فيكون قوله { غَيْرَ مُضَآرٍّ } حال من فاعل الفعل المذكور وهو ضمير { يوصى } .
أى : يوصى بما ذكر من الوصية والدين حال كونه " غير مضار " أى غير مدخل الضرر على الورثة . وبهذا نرى أن مرتبة الورثة فى التقسيم تأتى بعد سداد الديون وبعد تنفيذ الوصايا ولذا ذكر سبحانه هذين الأمرين أربع مرات فى هاتين الآيتين تأكيدا لحق الدائنين والموصى لهم وتبرئة لذمة المتوفى فقد قال بعد ببان ميراث الأولاد والأبوين { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } وقال بعد بيان ميراث الزوج { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } وقال بعد ميراث الزوجة : { مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } وقال بعد بيان ميراث الإِخوة والأخوات لأم : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ } .
وقد قدم - سبحانه - الوصية على الدين فى اللفظ مع أنها مؤخرة عن الدين فى السداد ، وذلك للتشديد فى تنفيذها ، إذ هى مظنه الإِهمال ، أو مظنة الإِخفاء ، ولأنها مال يعطى بغير عوض فكان إخراجها شاقا على النفس .
فكان من الاسلوب البليغ الحكيم العناية بتنفيذها ، وكان من مظاهر هذه العناية تقديمها فى الذكر .
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : فإن قلت : لم قدمت الوصية على الدين والدين مقدم عليها فى الشريعة ؟ قالت : لما كانت الوصية مشبهة للميراث فى كونها مأخوذة من غير عوض ، كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم ولا تطيب أنفسهم بها ، فكان أداؤها مظنة للتفريط ، بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه ، فلذلك قدمت على الدين بعثا على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين .
فإن قلت : ما معنى { أَوْ } ؟ قلت معناها الإِباحة ، وأنه إذا كان أحدهما أو كلاهما ، قدم على قسمة الميراث كقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين . فأو هنا جئ بها للتسوية بينهما فى الوجوب .
وقوله - تعالى - { غَيْرَ مُضَآرٍّ } يفيد النهى للموروث عن إلحاق الضرر بورثته عن طريق الوصية أو بسب الديون .
والضرر بالورثة عن طريق الوصية يتأتى بأن يوصى الموروث بأكثر من الثلث ، أو به فأقل مع قصده الإِضرار بالورثة فقد روى النسائى فى سننه عن ابن عباس أنه قال : الضرار فى الوصية من الكبائر . وقال قتادة : كره الله الضرار فى الحياة وعند الممات ونهى عنه .
والضرر بالورثة بسبب الدين يتأتى بأن يقر بدين لشخص ليس له عليه دين دفعا للميراث عن الورثة ، أو يقر بأن الدين الذى كان له على غيره قد استوفاه ووصل إليه ، مع أنه لم يحصل شئ من ذلك .
وقد ذكر - سبحانه - هذه الجملة وهى قوله { غَيْرَ مُضَآرٍّ } بعد حديثه عن ميراث الإِخوة والأخوات من الأم ، تأكيدا لحقوقهم ، وتحريضا على أدائها ، لأن حقوقهم مظنة الضياع والإِهمال . ولا يزال الناس إلى الآن يكادون يهملون نصيب الإِخوة لأم .
وقوله { وَصِيَّةً مِّنَ الله } نصبت كلمة { وَصِيَّةً } فيه على أنها مصدر مؤكد أى : يوصيكم الله بذلك وصية . والتنوين فيها للتفخيم والتعظيم . والجار والمجرور وهو { مِّنَ الله } متعلق بمحذوف وقع صفة لوصية : أى وصية كائنة من الله فمن خالفها كان مستحقا لعقابه .
وقوله { والله عَلِيمٌ حَلِيمٌ } تذييل قصد به تربية المهابة فى القلوب من خالقها العليم بأحوالها . أى والله عليم بما تسرون وما تعلنون ، وبما يصلح أحوالكم وبمن يستحق الميراث ومن لا يستحقه وبمن يطيع أوامره ومن يخالفها حليم لا يعجل بالعقوبة على من عصاه ، فهو - سبحانه - يمهل ولا يهمل . فعليكم أن تستجيبوا لأحكامه ، حتى كونوا أهلا لمثوبته ورضاه .
يقول تعالى : ولكم - أيها الرجال - نصف ما ترك أزواجكم إذا مُتْن عن غير ولد ، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد [ وصية ]{[6742]} يوصين بها أو دين . وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية ، وبعده الوصية ثم الميراث ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب .
ثم قال : { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ]{[6743]} } إلخ ، وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الاثنتان والثلاث والأربع يشتركن{[6744]} فيه .
وقوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ } إلخ ، الكلام عليه كما تقدم .
وقوله : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً } الكلالة : مشتقة من الإكليل ، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه ، والمراد هنا{[6745]} من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه ، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق : أنه سئل عن الكلالة ، فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابًا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه : الكلالة من لا ولد له ولا والد . فلما ولي عمر بن الخطاب قال : إني لأستحيي{[6746]} أن أخالف أبا بكر في رأي رآه . رواه ابن جرير وغيره{[6747]} .
وقال ابن أبي حاتم ، رحمه الله ، في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب ، فسمعته يقول : القول ما قلت ، وما قلت{[6748]} وما قلت . قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد{[6749]} .
وهكذا قال علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وصح عن{[6750]} غير وجه عن عبد الله بن عباس ، وزيد بن ثابت ، وبه يقول الشعبي والنخعي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وجابر بن زيد ، والحكم . وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة . وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف{[6751]} بل جميعهم . وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، وورد فيه حديث مرفوع . قال أبو الحسين بن اللبان : وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك ، وهو أنه لا ولد له . والصحيح عنه الأول ، ولعل الراوي ما فهم عنه{[6752]} ما أراد .
وقوله : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي : من أم ، كما هو في قراءة بعض السلف ، منهم سعد بن أبي وقاص ، وكذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه{[6753]} قتادة عنه ، { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ }
وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه ، أحدها : أنهم يرثون مع من أدلوا به وهي الأم . الثاني : أن ذكرهم وأنثاهم سواء . الثالث : أنهم لا يرثون إلا إذا كان ميتهم يورث كلالة ، فلا يرثون مع أب ، ولا جد ، ولا ولد ، ولا{[6754]} ولد ابن . الرابع : أنهم لا يزادون{[6755]} على الثلث ، وإن كثر{[6756]} ذكورهم وإناثهم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وَهْب ، أخبرنا يونس ، عن الزهري قال : قضى عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أن ميراث الإخوة من الأم بينهم ، للذكر مثل الأنثى{[6757]} قال محمد بن شهاب الزهري : ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم بذلك{[6758]} من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذه الآية التي قال الله تعالى : { فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ }
واختلف العلماء في المسألة المشتركة ، وهي : زوج ، وأم أو جدة ، واثنان{[6759]} من ولد الأم وواحد{[6760]} أو أكثر من ولد الأبوين . فعلى قول الجمهور : للزوج النصف ، وللأم أو الجدة السدس ، ولولد الأم الثلث ، ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو إخوةُ الأم .
وقد وقعت هذه المسألة في زمن{[6761]} أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، فأعطى الزوج النصف ، والأم السدس ، وجعل الثلث لأولاد الأم ، فقال له أولاد الأبوين : يا أمير المؤمنين ، هب أن أبانا كان حمارا ، ألسنا من أم واحدة ؟ فشرك بينهم .
وصح التشريك عنه وعن أمير المؤمنين عثمان ، وهو إحدى الروايتين عن ابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، رضي الله عنهم . وبه يقول سعيد بن المسيب ، وشريح القاضي ، ومسروق ، وطاوس ، ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، والثوري ، وشريك وهو مذهب مالك والشافعي ، وإسحاق بن راهويه .
وكان علي بن أبي طالب لا يشرك بينهم ، بل يجعل الثلث لأولاد الأم ، ولا شيء لأولاد الأبوين ، والحالة هذه ، لأنهم عصبة . وقال وَكِيع بن الجراح : لم يختلف عنه في ذلك ، وهذا قول أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري ، وهو المشهور عن ابن عباس ، وهو مذهب الشعبي وابن أبي ليلى ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والحسن بن زياد ، وزُفَر بن الهُذيل ، والإمام أحمد بن حنبل ، ويحيى بن آدم ونعيم بن حماد ، وأبي ثور ، وداود بن علي الظاهري ، واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي ، رحمه الله ، في كتابه " الإيجاز " .
وقوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } أي : لتكون{[6762]} وصيته على العدل ، لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة ، أو ينقصه ، أو يزيده على ما قدرَ الله له من الفريضة فمتى سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته{[6763]} وقسمته ؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر الدمشقي الفراديسي ، حدثنا عُمَر بن المغيرة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإضرار في الوصية من الكبائر " .
وكذا رواه ابن جرير من طريق عمر بن المغيرة هذا{[6764]} وهو أبو حفص بصري سكن المصيصة ، قال أبو القاسم ابن عساكر : ويعرف بمفتي المساكين . وروى عنه غير واحد من الأئمة . وقال فيه أبو حاتم الرازي : هو شيخ . وقال علي بن المديني : هو مجهول لا أعرفه . لكن رواه النسائي في سننه عن علي ابن حجر ، عن علي بن مُسْهِر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، موقوفًا :
" الإضرار في الوصية من الكبائر " . وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن عائذ بن حبيب ، عن داود بن أبي هند . ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس موقوفا{[6765]} وفي بعضها : ويقرأ ابن عباس : { غَيْرَ مُضَارٍّ }
قال ابن جريج{[6766]} والصحيح الموقوف .
ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث : هل هو صحيح أم لا ؟ على قولين : أحدهما : لا يصح لأنه مظنة التهمة أن يكون قد أوصى له بصيغة الإقرار وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله قد أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه ، فلا وَصِيَّة لِوَارِثٍ " . وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، وأحمد بن حنبل ، والقول القديم للشافعي ، رحمهم الله ، وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار . وهو مذهب طاوس ، وعطاء ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز .
وهو اختيار أبي عبد الله{[6767]} البخاري في صحيحه . واحتج بأنّ رَافع بن خديج أوصى ألا تُكْشَف{[6768]} الفَزَارية عما أغْلقَ عليه بابها قال : وقال بعض الناس : لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظنَّ ، فإن الظَّنَّ أكذبُ الحديث " . وقال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] فلم يخص وارثًا ولا غيره . انتهى ما ذكره .
فمتى كان الإقرارُ صحيحًا مطابقًا لما في نفس الأمر جَرَى فيه هذا الخلاف ، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم ، فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة { غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } [ ثم قال الله ]{[6769]}
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لّمْ يَكُنْ لّهُنّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِن لّمْ يَكُنْ لّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنّ الثّمُنُ مِمّا تَرَكْتُم مّن بَعْدِ وَصِيّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَىَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرّ وَصِيّةً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولكم أيها الناس نصف ما ترك أزواجكم بعد وفاتهن من مال وميراث إن لم يكن لهنّ ولد يوم يحدث لهنّ الموت لا ذكر ولا أنثى . { فإنْ كَانَ لهُنّ وَلَدٌ } أي فإن كان لأزواجكم يوم يحدث لهنّ الموت ولد ذكر أو أنثى ، فلكم الربع مما تركن من مال وميراث ، ميراثا لكم عنهنّ ، { مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بها أو دَيْنٍ } يقول : ذلكم لكم ميراثا عنهنّ مما يبقى من تركاتهنّ وأموالهنّ من بعد قضاء ديونهنّ التي يمتن وهي عليهن ، ومن بعد إنفاذ وصاياهنّ الجائزة إن كنّ أوصين بها .
القول في تأويل قوله تعالى : { ولهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَركْتُمْ إنْ لمْ يَكُنْ لَكُمْ ولَدٌ فإنْ كانَ لَكُمْ ولَدٌ فَلَهُنّ الثّمُنُ مِمّا تَركْتُمْ مِنْ بَعْدِ وِصّيةٍ تُوصُون بِها أوْ ديْنٍ } :
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { ولهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَركْتُمْ إنْ لمْ يَكُنْ لَكُمْ ولَدٌ } : ولأزواجكم أيها الناس ربع ما تركتم بعد وفاتكم من مال وميراث إن حدث بأحدكم حدث الوفاة ولا ولد له ذكر ولا أنثى . { فإنْ كانَ لَكُمْ ولَدٌ } يقول : فإن حدث بأحدكم حدث الموت وله ولد ذكر أو أنثى ، واحدا كان الولد أو جماعة ، { فَلَهُنّ الثّمُنُ مِمّا تَركْتُمْ } يقول : فلأزواجكم حينئذ من أموالكم وتركتكم التي تخلفونها بعد وفاتكم الثمن من بعد قضاء ديونكم التي حدث بكم حدث الوفاة وهي عليكم ، ومن بعد إنفاذ وصاياكم الجائزة التي توصون بها . وإنما قيل : { مِنْ بَعْدِ وِصّيةٍ تُوصُون بِها أوْ ديْنٍ } فقدّم ذكر الوصية على ذكر الدين ، لأن معنى الكلام : إن الذي فرضت لمن فرضت له منكم في هذه الاَيات إنما هو له من بعد إخراج أيّ هذين كان في مال الميت منكم ، من وصية أو دين . فلذلك كان سواء تقديم ذكر الوصية قبل ذكر الدين ، وتقديم ذكر الدين قبل ذكر الوصية ، لأنه لم يرد من معنى ذلك إخراج أحد الشيئين : الدين والوصية من ماله ، فيكون ذكر الدين أولى أن يبدأ به من ذكر الوصية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة .
ثم اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأ ذلك عامة قراء أهل الإسلام : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً } يعني : وإن كان رجل يورَث متكلل النسب . فالكلالة على هذا القول مصدر من قولهم : تكلله النسب تكللاً وكلالة ، بمعنى : تعطف عليه النسب . وقرأه بعضهم : «وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً » بمعنى : وإن كان رجل يورث من يتكلله ، بمعنى : من يتعطف عليه بنسبه من أخ أو أخت .
واختلف أهل التأويل في الكلالة ، فقال بعضهم : هي ما خلا الوالد والولد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الوليد بن شجاع السكوني ، قال : ثني عليّ بن مسهر ، عن عاصم ، عن الشعبي ، قال : قال أبو بكر رضي الله عنه : إني قد رأيت في الكلالة رأيا ، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له ، وإن يكن خطأً فمني والشيطان ، والله منه بريءٌ¹ إنّ الكلالة ما خلا الولد والوالد . فلما استخلف عمر رضي الله عنه ، قال : إني لأستحيي من الله تبارك وتعالى أن أخالف أبا بكر في رأي رآه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عاصم الأحول ، قال : حدثنا الشعبي : أن أبا بكر رضي الله عنه ، قال في الكلالة : أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله : هو ما دون الولد والوالد . قال : فلما كان عمر رضي الله عنه ، قال : إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر .
حدثنا أبو بشر بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبي : أن أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما قالا : الكلالة من لا ولد له ولا والد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن عمران بن حدير ، عن السميط ، قال : كان عمر رجلاً أيسر ، فخرج يوما وهو يقول بيده هكذا ، يديرها ، إلا أنه قال : أتى عليّ حينٌ ولست أدري ما الكلالة ، ألا وإن الكلالة : ما خلا الولد والوالد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، عن أبي بكر ، قال : الكلالة ما خلا الولد والوالد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن جريج يحدّث عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ابن الحنفية ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة : ما خلا الولد والوالد .
حدثنا ابن بشار وابن وكيع ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، عن ابن عباس ، بمثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد السلولي ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة : ما خلا الولد والوالد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ } قال : الكلالة : من لم يترك ولدا ولا والدا .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، قال : ما رأيتهم إلا قد اتفقوا أن ما مات ولم يدع ولدا ولا والدا أنه كلالة .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، قال : ما رأيتهم إلا قد أجمعوا أن الكلالة : الذي ليس له ولد ولا والد .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، قال : الكلالة : ما خلا الولد والوالد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، قال : أدركتهم وهم يقولون : إذا لم يدع الرجل ولدا ولا والدا وُرِثَ كلالة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ } والكلالة : الذي لا ولد له ولا والد ، لا أب ولا جدّ ولا ابن ولا ابنة ، فهولاء الإخوة من الأم .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، قال في الكلالة : ما دون الولد والوالد .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الكلالة كل من لا يرثه والد ولا ولد ، وكل من لا ولد له ولا والد فهو يورث كلالة من رجالهم ونسائهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والزهري وأبي إسحاق ، قال : الكلالة : من ليس له ولد ولا والد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن محمد ، عن معمر ، عن الزهري وقتادة وأبي إسحاق ، مثله .
وقال آخرون : الكلالة : ما دون الولد . وهذا قول عن ابن عباس ، وهو الخبر الذي ذكرناه قبل من رواية طاوس عنه أنه ورث الإخوة من الأم السدس مع الأبوين .
وقال آخرون : الكلالة : ما خلا الوالد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن شعبة ، قال : سألت الحكم عن الكلالة ؟ قال : فهو ما دون الأب .
واختلف أهل العربية في الناصب للكلالة¹ فقال بعض البصريين : إن شئت نصبت كلالة على خبر كان ، وجعلت «يورث » من صفة الرجل ، وإن شئت جعلت «كان » تستغني عن الخبر نحو : وقع ، وجعلت نصب كلالة على الحال : أي يورث كلالة ، كما يقال : يضرب قائما . وقال بعضهم : قوله «كلالة » ، خبر «كان » ، لا يكون الموروث كلالة ، وإنما الوارث الكلالة .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي : أن الكلالة منصوب على الخروج من قوله { يُورَثُ } وخبر «كان » «يورث » . والكلالة وإن كانت منصوبة بالخروج من يورث ، فليست منصوبة على الحال ، ولكن على المصدر من معنى الكلام ، لأن معنى الكلام وإن كان رجل يورث متكلله النسب كلالة ، ثم ترك ذكر متكلله اكتفاء بدلالة قوله : «يورث » عليه .
واختلف أهل العلم في المسمى كلالة ، فقال بعضهم : الكلالة : الموروث ، وهو الميت نفسه ، سمي بذلك إذا ورثه غير والده وولده . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قولهم في الكلالة ، قال : الذي لا يدع والدا ولا ولدا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : كنت آخر الناس عهدا بعمر رضي الله عنه ، فسمعته يقول ما قلت ، قلت : وما قلت ؟ قال : الكلالة : من لا ولد له .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ويحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة : من لا ولد له ولا والد .
وقال آخرون : الكلالة : هي الورثة الذين يرثون الميت إذا كانوا إخوة أو أخوات أو غيرهم إذا لم يكونوا ولدا ولا والدا على ما قد ذكرنا من اختلافهم في ذلك .
وقال آخرون : بل الكلالة : الميت والحيّ جميعا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الكلالة : الميت الذي لا ولد له ولا والد ، والحيّ كلهم كلالة ، هذا يرث بالكلالة ، وهذا يورث بالكلالة .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله هؤلاء ، وهو أن الكلالة الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده ، وذلك لصحة الخبر الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أنه قال : قلت يا رسول الله ، إنما يرثني كلالة ، فكيف بالميراث ؟ وبما :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، قال : كنا مع حميد بن عبد الرحمن في سوق الرقيق ، قال : فقام من عندنا ثم رجع ، فقال : هذا آخر ثلاثة من بني سعد حدثوني هذا الحديث ، قالوا : مرض سعد بمكة مرضا شديدا ، قال : فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده ، فقال : يا رسول الله لي مال كثير ، وليس لي وارث إلا كلالة ، فأوصي بمالي كله ؟ فقال : «لا » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن العلاء بن زياد ، قال : جاء شيخ إلى عمر رضي الله عنه ، فقال : إني شيخ وليس لي وارث إلا كلالةُ أعرابٍ متراخٍ نَسَبهم ، أفأوصي بثلث مالي ؟ قال : لا .
فقد أنبأت هذه الأخبار عن صحة ما قلنا في معنى الكلالة وأنها ورثة الميت دون الميت ممن عدا والده وولده .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدً مِنْهُما السّدُسُ فإنْ كانُوا أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثّلُثِ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { ولَهُ أخٌ أو أخْتٌ } وللرجل الذي يورث كلالة أخ أو أخت يعني أخا أو أختا من أمه . كما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن يعلى بن عطاء ، عن القاسم ، عن سعد ، أنه كان يقرأ : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ } قال سعد : لأمه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، قال : سمعت القاسم بن ربيعة يقول : قرأت على سعد : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ } قال سعد : لأمه .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن القاسم بن ربيعة بن قانف ، قال : قرأت على سعد ، فذكر نحوه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا يعلى بن عطاء ، عن القاسم بن ربيعة ، قال : سمعت سعد بن أبي وقاص قرأ : «وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ أو أخت » من أمه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ } فهؤلاء الإخوة من الأم إن كان واحدا فله السدس ، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ } فهؤلاء الإخوة من الأم ، فهم شركاء في الثلث ، سواء الذكر والأنثى .
وقوله : { فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ } إذا انفرد الأخ وحده أو الأخت وحدها ، ولم يكن أخ غيره أو غيرها من أمه فله السدس من ميراث أخيه لأمه ، فإن اجتمع أخ وأخت أو أخوان لا ثالث معهما لأمهما ، أو أختان كذلك ، أو أخ وأخت ليس معهما غيرهما من أمهما ، فلكلّ واحد منهما من ميراث أخيهما لأمهما السدس . { وَإنْ كانُوا أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ } يعني : فإن كان الإخوة والأخوات لأمّ الميت الموروث كلالة أكثر من اثنين ، { فَهُمْ شُرَكاءَ فِي الثّلُثِ } يقول : فالثلث الذي فرضت لاثنيهم إذا لم يكن غيرهما من أمهما ميراثا لهما من أخيهما الميت الموروث كلالة شركة بينهم إذا كانوا أكثر من اثنين إلى ما بلغ عددهم على عدد رءوسهم ، لا يفضل ذكر منهم على أنثى في ذلك ، ولكنه بينهم بالسوية .
فإن قال قائل : وكيف قيل وله أخ أو أخت ، ولم يقل لهما أخ أو أخت ، وقد ذكر قبل ذلك «رجل أو امرأة » ، فقيل : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ؟ قيل : إن من شأن العرب إذا قدمت ذكر اسمين قبل الخبر فعطفت أحدهما على الاَخر بأو ثم أتت بالخبر أضافت الخبر إليهما أحيانا وأحيانا إلى أحدهما ، وإذا أضافت إلى أحدهما ، كان سواء عندها إضافة ذلك إلى أيّ الأسمين اللذين ذكرتهما إضافته ، فتقول : من كان عنده غلام أو جارية فليحسنْ إليه ، يعني : فليحسن إلى الغلام ، وفليحسن إليها ، يعني : فليحسن إلى الجارية ، وفليحسن إليهما . وأما قوله : { فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهما السّدُسُ } وقد تقدم ذكر الأخ والأخت بعطف أحدهما على الاَخر ، والدلالة على أن المراد بمعنى الكلام أحدهما في قوله : { وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ } فإن ذلك إنما جاز لأن معنى الكلام : فلكل واحد من المذكورين السدس .
القول في تأويل قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِهَا أوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضارّ وَصِيّةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيّة يُوصَى بِها } : أي هذا الذي فرضت لأخي الميت الموروث كلالة وأخته أو إخوته وأخواته من ميراثه وتركته ، إنما هو لهم من بعد قضاء دين الميت الذي كان عليه يوم حدث به حدث الموت من تركته ، وبعد إنفاذ وصاياه الجائزة التي يوصي بها في حياته لمن أوصى له بها بعد وفاته . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِها أوْ دَيْنٍ } والدين أحقّ ما بدىء به من جميع المال ، فيؤدى عن أمانة الميت ، ثم الوصية ، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم .
وأما قوله : { غَيْرَ مُضَارّ } فإنه يعني تعالى ذكره : من بعد وصية يوصي بها غير مضارّ ورثته في ميراثهم عنه . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { غَيْرَ مُضَارّ } قال : في ميراث أهله .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : { غَيْرَ مُضَارّ } قال : في ميراث أهله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثني يزيد ، قال : ثني سعيد ، عن قتادة ، قوله : { غَيْرَ مُضَارّ وَصِيّة مِنَ اللّهِ } إن الله تبارك وتعالى كره الضرار في الحياة وعند الموت ونهى عنه وقدم فيه ، فلا تصلح مضارّة في حياة ولا موت .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا عبيدة بن حميد ، وثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية جميعا ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في هذه الاَية : { غَيْرَ مُضَارّ وَصِيّةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } قال : الضرار في الوصية من الكبائر .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الضرار في الوصية من الكبائر .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الحيف في الوصية من الكبائر .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ وعبد الأعلى ، قالا : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الضرار والحيف في الوصية من الكبائر .
حدثني موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النصر ، قال : حدثنا عمر بن المغيرة ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «الضّرَارُ في الوَصِيّةِ مِنَ الكَبَائِرِ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو عمرو التيمي ، عن أبي الضحى ، قال : دخلت مع مسروق على مريض ، فإذا هو يوصي ، قال : فقال له مسروق : اعدل لا تضلل !
ونصبت «غيرَ مضارّ » على الخروج من قوله : { يُوصَى بِها } . وأما قوله : { وَصِيّةً } فإن نصبه من قوله : { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ } وسائر ما أوصى به في الاثنين ، ثم قال : { وَصِيّةً مِنَ اللّهِ } مصدرا من قوله : { يُوصِيكُمْ } . وقد قال بعض أهل العربية : ذلك منصوب من قوله : { فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ وَصِيّةً مِنَ اللّهِ } قال : هو مثل قولك : لك درهمان نفقة إلى أهلك .
والذي قلناه بالصواب أولى ، لأن الله جلّ ثناؤه افتتح ذكر قسمة المواريث في هاتين الاَيتين بقوله : { يُوصِيكُمُ اللّهُ } ثم ختم ذلك بقوله : { وَصِيّةً مِنَ اللّهِ } أخبر أن جميع ذلك وصية منه به عباده ، فنصب قوله : { وَصِيّةً } على المصدر من قوله : { يُوصِيكُمْ } أولى من نصبه على التفسير من قوله : { فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ } لما ذكرنا . ويعني بقوله تعالى ذكره : { وَصِيّةً مِنَ اللّهِ } : عهدا من الله إليكم فيما يجب لكم من ميراث من مات منكم . { وَاللّهُ عَلِيمٌ } يقول : ذو علم بمصالح خلقه ومضارّهم ، ومن يستحق أن يعطى من أقرباء من مات منكم وأنسبائه من ميراثه ، ومن يحرم ذلك منهم ، ومبلغ ما يستحقّ به كلّ من استحقّ منهم قسما ، وغير ذلك من أمور عباده ومصالحهم . { حَلِيمٌ } يقول : ذو حلم على خلقه ، وذو أناة في تركه معاجلتهم بالعقوبة على ظلم بعضهم بعضا في إعطائهم الميراث لأهل الجلد والقوّة من ولد الميت وأهل الغناء والبأس منهم ، دون أهل الضعف والعجز من صغار ولده وإناثهم .
{ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين } .
هذه فريضة الميراث الذي سببه العصمة ، وقد أعطاها الله حقّها المهجور عند الجاهلية إذ كانوا لا يورّثون الزوجين : أمّا الرجل فلا يرث امرأته لأنّها إن لم يكن لها أولاد منه ، فهو قد صار بموتها بمنزلة الأجنبي عن قرابتها من آباء وإخوة وأعمام ، وإن كان لها أولاد كان أولادها أحقّ بميراثها إن كانوا كباراً ، فإن كانوا صغاراً قبض أقرباؤهم مالهم وتصرّفوا فيه ، وأمّا المرأة فلا ترث زوجها بل كانت تعدّ موروثة عنه يتصرّف فيها ورثته كما سيجيء في قوله : { يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } [ النساء : 19 ] . فنوّه الله في هذه الآيات بصلة العصمة ، وهي التي وصفها بالميثاق الغليظ في قوله : { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } [ النساء : 21 ] .
والجمع في { أزواجكم } وفي قوله : { مما تركتم } كالجمع في الأولاد والآباء ، مراد به تعدّد أفراد الوارثين من الأمّة ، وههنا قد اتّفقت الأمّة عى أنّ الرجل إذا كانت له زوجات أنهنّ يشتركن في الربع أو في الثمن من غير زيادة لهنّ ، لأنّ تعدّد الزوجات بيد صاحب المال فكان تعددّهنّ وسيلة لإدخال المضرّة على الورثة الآخرين بخلاف تعدّد البنات والأخوات فإنّه لا خيار فيه لربّ المال . والمعنى : ولكلّ واحد منكم نصف ما تركت كلّ زوجة من أزواجه وكذلك قوله : { فلكم الربع مما تركن } .
وقوله : { ولهن الربع مما تركتم } أي لمجموعهنّ الربع ممّا ترك زوجهنّ . وكذلك قوله : { فلهن الثمن مما تركتم } وهذا حذق يدلّ عليه إيجاز الكلام .
وأعقبت فريضة الأزواج بذكر { من بعد وصية يوصين بها أو دين } لئلا يتوهّم متوهّم أنّهنّ ممنوعات من الإيصاء ومن التداين كما كان الحال في زمان الجاهلية . وأمّا ذكر تلك الجملة عقب ذكر ميراث النساء من رجالهنّ فجريا على الأسلوب المتّبع في هذه الآيات ، وهو أن يعقب كلّ صنف من الفرائض بالتنبيه على أنّه لا يُستحقّ إلاّ بعد إخراج الوصيّة وقضاء الدين .
{ وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين } .
بعد أن بيّن ميراث ذي الأولاد أو الوالدَيْن وفصّله في أحواله حتّى حالة ميراث الزوجين ، انتقل هنا إلى ميراث من ليس له ولد ولا والد ، وهو الموروث كلالة ، ولذلك قابل بها ميراث الأبوين .
والكلالةُ اسم للكلال وهو التعب والإعياء قال الأعشى :
فآليتُ لا أرثي لَها مِن كلالة *** ولا من حفى حتّى أُلاقي مُحَمَّدا
وهو اسم مصدر لا يثنيّ ولا يجمع .
ووصفت العرب بالكلالة القرابةَ غيرَ القربى ، كأنّهم جعلوا وصوله لنسب قريبه عن بُعد ، فأطلقوا عليه الكلالة على طريق الكناية واستشهدوا له بقول من لم يسمّوه :
فإنّ أبا المرءِ أحمى له *** ومَوْلى الكلالة لا يُغْضَبُ
ثم أطلقوه على إرث البعيد ، وأحسب أنّ ذلك من مصطلح القرآن إذ لم أره في كلام العرب إلاّ ما بعد نزول الآية . قال الفرزدق :
ورثتم قَنَاةَ المجد لا عن كلالة *** عن ابنَيْ مناف عبدِ شمس وهاشمِ
ومنه قولهم : ورِث المجدَ لاعن كلالة . وقد عدّ الصحابة معنى الكلالة هنا من مشكل القرآن حتّى قال عُمر بن الخطاب : « ثلاث لأن يكون رسول الله بَيّنهن أحبّ إليّ من الدنيا : الكلالةُ ، والربا ، والخلافةُ » . وقال أبو بكر : « أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان والله منه بريء ، الكلالة ما خلا الولدَ والوالدَ » . وهذا قول عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وقال به الزهري ، وقتادة والشعبي ، وهو قول الجمهور ، وحكي الإجماع عليه ، وروي عن ابن عباس « الكلالة من لا ولد له » أي ولو كان له والد وينسب ذلك لأبي بكر وعمر أيضاً ثم رجعا عنه ، وقد يستدلّ له بظاهر الآية في آخر السورة : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد } [ النساء : 176 ] وسياق الآية يرجّح ما ذهب إليه الجمهور لأنّ ذكرها بعد ميراث الأولاد والأبوين مؤذن بأنّها حالة مخالفة للحالين .
وانتصب قوله : { كلالة } على الحال من الضمير في { يورث } الذي هو كلالة من وارثه أي قريب غير الأقرب لأنّ الكلالة يصحّ أن يوصف بها كلا القريبين .
وقوله : { أو امرأة } عطف على { رجل } الذي هو اسم ( كان ) فيشارك المعطوف المعطوف عليه في خبر ( كان ) إذ لا يكون لها اسم بدون خبر في حال نقصانها .
وقوله : { وله أخ أو أخت } يتعيّن على قول الجمهور في معنى الكلالة أن يكون المراد بهما الأخ والأخت للأمّ خاصّة لأنَّه إذا كان الميّت لا ولد له ولا والد وقلنا له أخ أو أخت وجعلنا لكلّ واحد منهما السدس نعلم بحكم ما يُشْبه دلالةَ الاقتضاء أنّهما الأخ والأخت للأم لأنّهما لمّا كانت نهاية حظّهما الثلث فقد بقي الثلثان فلو كان الأخ والأخت هما الشقيقين أو اللذين للأب لاقتضى أنّهما أخذا أقلّ المال وترك الباقي لغيرهما وهل يكون غيرهما أقرب منهما فتعيّن أنّ الأخ والأخت مراد بهما اللذان للأمّ خاصّة ليكون الثلثان للإخوة الأشقّاء أو الأعمام أو بني الأعمام . وقد أثبت الله بهذا فرضاً للإخوة للأمّ إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من إلغاء جانب الأمومة أصلاً ، لأنّه جانب نساء ولم يحتج للتنبيه على مصير بقيّة المال لما قدّمنا بيانه آنفاً من أنّ الله تعالى أحال أمر العصابة على ما هو متعارف بين من نزل فيهم القرآن .
وعلى قول ابن عباس في تفسير الكلالة لا يتعيّن أن يكون المراد بالأخ والأخت اللذين للأمّ إذ قد يفرض للإخوة الأشقّاء نصيب هو الثلث ويبقى الثلثان لعاصب أقوى وهو الأب في بعض صور الكلالة غير أنّ ابن عباس وافق الجمهور على أنّ المراد بالأخ والأخت اللذان للأمّ وكان سبب ذلك عنده أنّ الله أطلق الكلالة وقد لا يكون فيها أب فلو كان المراد بالأخ والأخت الشقيقين أو اللذين للأب لأعطيناهما الثلث عند عدم الأب وبقي معظم المال لمن هو دون الإخوة في التعصيب فهذا فيما أرى هو الذي حدا سائر الصحابة والفقهاء إلى حمل الأخ والأخت على الذين للأمّ .
وقد ذكر الله تعالى الكلالة في آخر السورة بصورة أخرى سنتعرّض لها .
{ غير مضار وصية من الله والله عليم حليم }
{ غير مضار } حال من ضمير { يوصى } الأخير ، ولمّا كان فعل يوصي تكريراً ، كان حالا من ضمائر نظائره .
و { مضارّ } الأظهر أنّه اسم فاعل بتقدير كسر الراء الأولى المدغمة أي غير مضارّ ورثته بإكثار الوصايا ، وهو نهي عن أن يقصد الموصي من وصيته الإضرارَ بالورثة . والإضرارُ منه ما حدّده الشرع ، وهو أن يتجاوز الموصي بوصيّته ثلث ماله وقد حدّده النبي بقوله لسعد بن أبي وقّاص الثلثُ والثلث كثير . ومنه ما يحصل بقصد الموصي بوصيته الاضرار بالوارث ولا يقصد القربة بوصيّته ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : { غير مضار } . ولمّا كانت نيَّة الموصي وقصدُه الإضرار لا يُطلع عليه فهو موكول لدينه وخشية ربّه ، فإن ظهر ما يدلّ على قصده الإضرار دلالة واضحة ، فالوجه أن تكون تلك الوصيّة باطلة لأنّ قوله تعالى : { غير مضار } نهي عن الإضرار ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه .
ويتعيّن أن يكون هذا القيد مقيِّدا للمطلق في الآي الثلاث المتقدّمة من قوله { من بعد وصية } إلخ ، لأنّ هذه المطْلقات متّحدة الحكم والسبب . فيحمِل المطْلَق منها على المقيّد كما تقرّر في الأصول .
وقد أخذ الفقهاء من هذه الآية حكم مسألة قصد المعطي من عطيّته الإضرار بوارثه في الوصيّة وغيرها من العطايا ، والمسألة مفروضة في الوصيّة خاصّة . وحكى ابن عطية عن مذهب مالك وابن القاسم أنّ قصد المضارّة في الثلث لا تردّ به الوصيّة لأنّ الثلث حقّ جعله الله له فهو على الإباحة في التصرّف فيه . ونازعه ابن عرفة في التفسير بأنّ ما في الوصايا الثاني من « المدوّنة » ، صريح في أنّ قصد الإضرار يوجب ردّ الوصيّة وبحث ابن عرفة مكين . ومشهور مذهب ابن القاسم أن الوصية تردّ بقصد الإضرار إذا تبيّن القصد غير أنّ ابن عبد الحكم لا يرى تأثير الإضرار . وفي شرح ابن ناجي على تهذيب المدوّنة أنّ قصد الإضرار بالوصيّة في أقلّ من الثلث لا يوهن الوصيّة على الصحيح . وبه الفتوى .
وقوله : { وصية } منصوب على أنّه مفعول مطلق جاء بدلا من فعله ، والتقدير : يوصيكم الله بذلك وصيّة منه فهو ختم للأحكام بمثل ما بدئت بقوله : { يوصيكم الله } [ النساء : 11 ] وهذا من ردّ العجز على الصدر .
وقوله : { والله عليم حليم } تذييل ، وذكر وصف العلم والحلم هنا لمناسبة أنّ الأحكام المتقدّمة إبطال لكثير من أحكام الجاهلية ، وقد كانوا شرعوا مواريثهم تشريعاً مثاره الجهل والقساوة . فإنّ حرمان البنت والأخ للأمّ من الإرث جهل بأنّ صلة النسبة من جانب الأمّ مماثلة لصلة نسبة جانب الأب . فهذا ونحوه جهل ، وحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم .
وقد بيّنت الآيات في هذه السورة الميراث وأنصباءه بين أهل أصول النسب وفروعه وأطرافه وعصمة الزوجية ، وسكتت عمّا عدا ذلك من العصبة وذوي الأرحام وموالي العتاقة وموالي الحلف ، وقد أشار قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في سورة الأنفال ( 75 ) وقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في سورة الأحزاب ( 6 ) إلى ما أخذ منه كثير من الفقهاء توريث ذوي الأرحام . وأشار قوله الآتي قريباً { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] إلى ما يؤخذ منه التوريث بالولاء على الإجمال كما سنبيّنه ، وبَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم توريث العصبة بما رواه رواة أهل الصحيح عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ألحِقُوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأوْلى رَجُلٍ ذَكَر » وما رواه الخمسة غير النسائي عن أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فماله لمَوالي العصبة ومن ترك كَلا أو ضَياعا فأنا وليّه » وسنفصّل القول في ذلك في مواضعه المذكورة .