ثم أضاف - سبحانه - إلى هذه النعم الجليلة ، ما يدخل السرور على قلبه صلى الله عليه وسلم وما يبعث الأمل فى نفسه وفى نفوس أصحابه ، بأن بين لهم سنة من سننه التى لا تتخلف فقال : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } .
والفاء للإِفصاح ، ومع بمعنى بَعْد ، وأل فى العسر لاستغراق أنواع العسر المعروفة للمخاطبين . من فقر ، وضعف ، وقلة فى الوسائل التى تؤدي إلى إدراك المطلوب . والجملة الثانية مؤكدة ومقررة للجملة الأولى . والتنكير فى قوله { يسرا } للتفخيم .
والمعنى : إذا تقرر عندك ما أخبرنا به ، من شرح الصدر ، ووضع الوزر . ورفع الذكر . . فاعلم أنه ما من عسر إلا ويعقبه يسر ، وما من شدة إلا ويأتي بعدها الفرج ، وما من غم أو هم ، إلا وينكشف ، وتحل محله المسرة . . وما دام الأمر كذلك ، فتذرع أنت وأصحابك بالصبر ، واعتصموا بالتوكل على الله ، فإن العاقبة لكم .
ففى هاتين الآيتين ما فيهما من تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ولأتباعه ، ومن وعد صادق بأن كل صعب يلين ، وكل شديد يهون ، وكل عسير يتيسر . متى صبر الإِنسان الصبر الجميل ، وتسلح بالعزيمة القوية ، وبالإِيمان العميق بقضاء الله - تعالى - وقدره .
وأكد - سبحانه - هاتين الآيتين ، لأن هذه القضية قد تكون موضع شك ، خصوصا بالنسبة لمن تكاثرت عليهم الهموم وألوان المتاعب ، فأراد الله - سبحانه - أن يؤكد للناس فى كل زمان ومكان ، أن اليسر يعقب العسر لا محالة ، والفرج يأتى بعد الضيق ، فعلى المؤمن أن يقابل المصائب بصبر جميل ، وبأمل كبير فى تيسير الله وفرجه ونصره .
وقال - سبحانه - { مَعَ العسر يُسْراً } ولم يقل بعد العسر يسرا ، للإِشعار بأن هذا اليسر ، ليس بعد العسر بزمن طويل ، وإنما هو سيأتي فى أعقابه بدون مهلة طويلة ، متى وطن الإِنسان نفسه على الصبر والأمل فى فرج الله - تعالى - .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين بعض الآثار ، منها ما رواه ابن أبى حاتم ، عن عائد بن شريح قال : سمعت أنس بن مالك يقول : " كان النبى صلى الله عليه وسلم جالسا وحياله حجر فقال : " لو جاء العسر فدخل في هذا الحجر ، لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه " .
وعن الحسن قال : كانوا يقولون : لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين .
وعن قتادة : ذكر لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه فقال : " لن يغلب عسر يسرين " ومعنى هذا أن العسر مُعَرَّف فى الحالين ، فهو مفرد ، واليسر مُنَكَّر فمتعدد ، ولهذا قال : " لن يغلب عسر يسرين " فالعسر الأول عين الثانى ، واليسر تعدد . .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف تعلق قوله : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } ، كأنه قال : خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله ، فإن مع العسر الذى أنتم فيه يسرا .
فإن قلت : " إن مع " للصحبة ، فما معنى اصطحاب اليسر للعسر ؟ قلت : أراد أن الله يصيبهم بيسر بعد العسر الذى كانوا فيه بزمان قريب ، فقرب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر ، زيادة فى التسلية ، وتقوية القلوب .
فإن قلت : فما المراد باليسرين ؟ قلت : يجوز أن يراد بهما ما تيسر لهم من الفتوح فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم ، وما تيسر لهم فى أيام الخلفاء . وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة .
فإن قلت : فما معنى هذا التنكير ؟ قلت التفخيم ، كأنه قال : إن مع العسر يسرا عظيما وأى يسر .
وقوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } أخبر تعالى أن مع العسر يوجَدُ اليسر ، ثم أكد هذا الخبر .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا حُميد بن حماد بن خَوَار أبو الجهم ، حدثنا عائذ بن شُريح قال : سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا{[30216]} وحياله حجر ، فقال : " لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه " ، فأنزل الله عز وجل : {[30217]} { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } {[30218]} .
ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن محمد بن مَعْمَر ، عن حُميد بن حماد ، به ولفظه : " لو جاء العسر حتى يدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يخرجه " ثم قال : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } ثم قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح{[30219]} .
قلت : وقد قال فيه أبو حاتم الرازي : في حديثه ضعف ، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة ، عن رجل ، عن عبد الله بن مسعود موقوفا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا أبو قَطَن {[30220]} حدثنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : كانوا يقولون : لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن{[30221]} ثور ، عن مَعْمَر ، عن الحسن قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا وهو يضحك ، وهو يقول : " لن يَغْلِب عُسْر يسرين ، لن يغلب عسر يسرين ، فإن{[30222]} مع العسر يسرًا ، إن مع العسر يسرًا " .
وكذا رواه من حديث عوف الأعرابي ويونس بن عبيد ، عن الحسن مرسلا{[30223]} .
وقال سعيد ، عن قتادة : ذُكِرَ لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بهذه الآية فقال : " لن يغلب عسر يسرين " .
ومعنى هذا : أن العسر معرف في الحالين ، فهو مفرد ، واليسر منكر فتعدد ؛ ولهذا قال : " لن يغلب عسر يسرين " ، يعني قوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } فالعسر الأول عين{[30224]} الثاني واليسر تعدد .
وقال الحسن بن سفيان : حدثنا يزيد بن صالح ، حدثنا خارجة ، عن عباد بن كثير ، عن أبي الزناد ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نزل{[30225]} المعونة من السماء على قدر المؤونة ، ونزل الصبر على قدر المصيبة " {[30226]} .
ومما يروى عن الشافعي ، رضي الله عنه ، أنه قال :
صَبرا جَميلا ما أقرَبَ الفَرجا *** مَن رَاقَب الله في الأمور نَجَا
مَن صَدَق الله لَم يَنَلْه أذَى *** وَمَن رَجَاه يَكون حَيثُ رَجَا
وقال ابن دُرَيد : أنشدني أبو حاتم السجستاني :
إذا اشتملت على اليأس القلوبُ *** وضاق لما به الصدر الرحيبُ
وأوطأت المكاره واطمأنت *** وأرست في أماكنها الخطوبُ
ولم تر لانكشاف الضر وجها *** ولا أغنى بحيلته الأريبُ
أتاك على قُنوط منك غَوثٌ *** يمن به اللطيف المستجيبُ
وكل الحادثات إذا تناهت *** فموصول بها الفرج القريب
قوله : فَإنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا إنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإنّ مع الشدّة التي أنت فيها ، من جهاد هؤلاء المشركين ، ومِن أوّله : ما أنت بسبيله ، رجاءً وفرجا بأن يُظْفِرَك بهم ، حتى ينقادوا للحقّ الذي جئتهم به طوعا وكَرها .
ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذه الاَية لما نزلت ، بَشّر بها أصحابه وقال : «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ » . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت يونس ، قال : قال الحسن : لما نزلت هذه الاَية فَإنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أبْشِرُوا أتاكُمُ اليُسْرُ ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ » .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن يونس ، عن الحسن ، مثله ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، قال : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم يوما مسرورا فَرِحا وهو يضحك ، وهو يقول : «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ فَإنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا إنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَإنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا ذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشّر أصحابه بهذه الاَية ، فقال : «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن معاوية بن قرة أبي إياس ، عن رجل ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : لو دخل العسر في جُحْر ، لجاء اليسر حتى يدخل عليه ، لأن الله يقول : فَإنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا إنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة ، عن رجل ، عن عبد الله ، بنحوه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا قال : يتبع اليسرُ العُسرَ .
ثم قوى تعالى رجاءه بقوله سبحانه : [ فإن مع العسر يسرا ] أي مع ما تراه من الأذى فرج يأتيك ، وكرر الله تعالى ذلك مبالغة وتبيينا للخير ، فقال بعض الناس : المعنى إن مع العسر يسرا في الدنيا وإن مع العسر يسرا في الآخرة ، وذهب كثير من العلماء إلى أن مع كل عسر يسرين بهذه الآية ، من حيث " العسر " معرف للعهد ، و " اليسر " منكر ، فالأول غير الثاني وقد روي في هذا التأويل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لن يغلب عسر يسرين ){[11888]} وأما قول عمر به فنص في الموطأ في رسالته إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما . وقرأ عيسى ويحيى بن وثاب وأبو جعفر : ( العسر واليسر ) بضمتين ، وقرأ ابن مسعود : [ إن مع العسر يسرا ] واحدة غير مكررة .