الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا} (6)

قوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } : العامَّةُ على سكونِ السين في الكلم الأربع ، وابن وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمِّها . وفيه خلافٌ . هل هو أصلٌ ، أو مثقلٌ من المسكِّن ؟ والألفُ واللامُ في " العُسر " الأولِ لتعريف الجنس ، وفي الثاني للعهدِ ؛ ولذلك رُوِيَ عن ابن عباس : " لن يُغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن " ورُوي أيضاً مرفوعاً أنه عليه السلام خرج يضحك يقول : " لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ " والسببُ فيه : أنَّ العربَ إذا أَتَتْ باسمٍ ثم أعادَتْه مع الألفِ واللامِ ِكان هو الأولَ نحو : " جاء رجلٌ فأكرمْتُ الرجلَ " وكقولِه تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ }

[ المزمل : 1516 ] ولو أعادَتْه بغير ألفٍ ولامٍ كان غيرَ الأول . فقوله : { إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } لَمَّا أعاد العُسْرَ الثاني أعادَه بأل ، ولَمَّا كان اليُسْرُ الثاني غيرَ الأولِ لم يُعِدْه بأل .

وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ ما معنى قولِ ابن عباس ؟ وذكرَ ما تقدَّم . قلت : هذه عَمَلٌ على الظاهرِ وبناءٌ على قوةِ الرجاءِ ، وأنَّ موعدَ اللَّهِ لا يُحْمل إلاَّ على أَوْفى ما يحتملُه اللفظُ وأَبْلَغُه ، والقولُ فيه : إنه يحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ الثانيةُ تكريراً للأولى ، كما كرَّر قولَه : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] لتقريرِ معناها في النفوسِ وتمكينِها في القلوب ، وكما يُكَرَّر المفرد في قولك : " جاء زيدٌ زيدٌ " وأَنْ تكونَ الأولى عِدَةً بأنَّ العُسْرَ مُرْدَفٌ بيُسْرٍ لا مَحالَةَ ، والثانيةُ عِدَةً مستأنفةٌ بأنَّ العُسْرَ متبوعٌ بيسرٍ ، فهما يُسْران على تقديرِ الاستئناف ، وإنما كان العُسْرُ واحداً لأنه لا يخلو : إمَّا أَنْ يكونَ تعريفُه للعهدِ وهو العسرُ الذي كانوا فيه فهو هو ؛ لأنَّ حكمَه حكمُ " زيد " في قولك : " إنَّ مع زيد مالاً ، إنَّ مع زيد مالاً " وإمَّا أَنْ يكونَ للجنسِ الذي يَعْلَمُه كلُّ أحدٍ فهو هو أيضاً ، وأمَّا اليُسْرُ فمنكَّرٌ مُتَناولٌ لبعض الجنسِ ، وإذا كان الكلامُ الثاني مستأنفاً غيرَ مكررٍ فقد تناوَلَ بعضاً غيرَ البعضِ الأولِ بغيرِ إشكال " .

وقال أبو البقاء : " العُسْرُ في الموضعَيْنِ واحدٌ ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ توجبُ تكريرَ الأولِ ، وأمَّا " يُسْراً " في الموضعَيْنِ فاثنانِ ، لأنَّ النكرةَ إذا أُريد تكريرُها جيْءَ بضميرِها أو بالألفِ واللام ، ومن هنا قيل : " لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن " وقال الزمخشري أيضاً : " فإنْ قلتَ : إنَّ " مع " للصحبة ، فما معنى اصطحابِ اليُسْرِ والعُسْرِ ؟ قلت : أراد أنَّ اللَّهَ تعالى يُصيبُهم بيُسرٍ بعد العُسْرِ الذي كانوا فيه بزمانٍ قريبٍ ، فَقَرُبَ اليُسْرُ المترقَّبُ حتى جَعَله كأنَّه كالمقارِنِ للعُسْرِ ، زيادةً في التسلية وتقويةً للقلوب " وقال أيضاً : فإنْ قلتَ ما معنى هذا التنكير ؟ قلت : التفخيمُ كأنه قيل : إنَّ مع العُسْر يُسْراً عظيماً وأيَّ يُسْرٍ ؟ وهو في مُصحفِ ابن مسعودٍ مرة واحدة . فإنْ قلتَ : فإذا ثَبَتَ في قراءتِه غيرَ مكررٍ فلِمَ قال : " والذي نفسي بيده لو كان العُسْرُ في جُحْرٍ لطَلَبه اليُسْرُ حتى يَدْخُلَ عليه ، لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن " قلت : " كأنه قَصَدَ باليُسْرين ما في قوله " يُسْراً " مِنْ معنى التفخيم ، فتأوَّله ب " يُسْرِ الدارَيْن " وذلك يُسْران في الحقيقة " .