الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا} (6)

{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } أي مع الشدّة التي أنت فيها من جهاد المشركين ، ومزاولة ما أنت بسبيله يسراً ورخاءً بأن يظهرك عليهم ، حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به طوعاً وكرها .

{ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } كرّره لتأكيد الوعد وتعظيم الرجاء ، وقيل : فإن مع العسر يسراً : في الدنيا ، إن مع العسر يسراً : في الآخرة .

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله قال : حدّثنا محمد بن عبد الله قال : حدّثنا عثمان قال : حدّثنا ابن عليّة ، عن يونس ، عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ابشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عُسْرٌ يُسرَين " .

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا علي بن مرداراد الخياط قال : حدّثنا قطن بن بشير قال : حدّثنا جعفر بن سليمان ، عن رجل ، عن إبراهيم النخعي قال : قال ابن مسعود : والذي نفسي بيده ، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، إنّه لن يغلب عسرٌ يسرين ، إنّه لن يغلب عسر يسرين .

قال العلماء في معنى هذا الحديث : لأنه عرّف العسر ونكّر اليسر ، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسماً معرفة ثم أعادته فهو هو ، وإذا نكرّته ثم كررته فهما اثنان ، وقال الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني صاحب كتاب [ النظم ] وهو يكلم الناس في قوله ( عليه السلام ) : " لن يغلب عسر يسرين " فلم يحصل غير قولهم : إن العسر معرفة واليسر نكرة مكررة ، فوجب أن يكون [ عسر ] واحد ويسران ، وهذا قول مدخول [ إذ ] لا يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل : إنّ مع الفارس سيفاً إنّ مع الفارس سيفاً أن يكون الفارس واحداً والسيف اثنين ، ولا يصح هذا في نظم العربية .

فمجاز قوله : " لن يغلب عسر يسرين " إن الله بعث نبيّه ( عليه السلام ) مقلاّ مخففاً فعيّره المشركون لفقره ، حتى قالوا أنجمع لك مالا ؟ فاغتمّ ، فظنّ أنهم كذّبوه لفقره ، فعزّاه الله سبحانه وتعالى وعدد عليه نعماءه ووعده الغنى فقال : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } إلى قوله { ذِكْرَكَ } ، فهذا ذكر امتنانه عليه ، ثم ابتدأ ما وعده من الغنى ليسلّبه مما خامر قلبه ، فقال { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } ، والدليل عليه دخول الفاء في قوله ( فإنّ ) ولا يدخل الفاء أبداً إلاّ في عطف أو جواب .

ومجازه : لا يحزنك ما يقولون فإن مع العسر يسراً في الدنيا عاجلا ، ثم أنجزه ما وعده وفتح عليه القرى العربية ، ووسّع ذات يده ، حتى يهب المائتين من الإبل ، ثم ابتدأ فضلا آخر من الآخرة فقال تأسيةً له : { إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } ، والدليل على ابتدائه تعرّيه من الفاء والواو وحروف النسق فهذا عام لجميع المؤمنين ، ومجازه : إنّ مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسراً في الآخرة لا محالة ، فقوله : " لن يغلب عسر يسرين " أي لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين في الدنيا ، واليسر الذي وعدهم في الآخرة ، إنما يُغلب أحدهما وهو يسر الدنيا ، فأمّا يسر الآخرة فدائم غير زايل ؛ أي لا يجمعهما في الغلبة ، كقوله ( عليه السلام ) : " شهرا عيد لا ينقصان " أي لا يجتمعان في النقصان .

وقال أبو بكر الوراق : مع [ أختها ] بالدنيا جزاء الجنة ، قال القاسم : [ بردا هذه السعادة من أسحار ] الدنيا إلى رضوان العقبى ، وقراءة العامة بتخفيف السينين ، وقرأ أبو جعفر وعيسى ، بضمهما ، وفي حرف عبد الله : إنّ مع العسر يسراً ، مرة واحدة غير مكررة .

أخبرني أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن محمد الرمجاري وأبو الحسن علي بن محمد بن محمد البغدادي قالا : حدّثنا محمد بن يعقوب الأصم قال : حدّثنا أحمد بن شيبان الرملي قال : حدّثنا عبد الله بن ميمون القداح قال : حدّثنا شهاب بن خراش ، عن عبد الملك بن عمير ، " عن ابن عباس قال : أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة ، أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ، ثم أردفني خلفه ، ثم سار بي مليّاً ، ثم التفت اليّ فقال لي : " يا غلام " ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : " احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف الى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة ، وإذا سألتَ فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، قد مضى القلم بما هو كائن ، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك ، لما قدروا عليه ، ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتبه الله عليك ما قدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل ، فإنّ لم تستطع فاصبر ، فإنّ في الصبر على ما يُكره خيراً كثيراً ، واعلم أنّ مع الصبر النصر ، وأنّ مع الكرب الفرج و { إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } " .

وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن الحسن النيسابوري يقول : سمعت أبا علي محمد بن عامر البغدادي يقول : سمعت عبد العزيز بن يحيى يقول : سمعت عمي يقول : سمعت العتبي يقول : كنت ذات يوم في البادية بحالة من الغم فأُلقي في روعي بيت شعر فقلت :

أرى الموت لن أصبح ولاح *** مغموماً له أروح

فلمّا جنّ الليل سمعت هاتفاً يهتف ، من الهواء :

ألا يا أيّها المرءُ ال *** ذي الهمُّ به برّح

وقد أنشد بيتاً لم *** يزل في فكره يسنح

إذا اشتدّ بك العسر *** ففكّرْ في ألمْ نشرح

فعسرٌ بين يسرين *** إذا فكّرتها فافرح

قال : فحفظت الأبيات ، وفرّج الله غمّي .

وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدنا أبو محمد أحمد بن محمد بن إسحاق الجيزنجي قال : أنشدنا إسحاق بن بهلول القاضي :

فلا تيأسْ وإن أُعسرت يوماً *** فقد أُيسرت في دهر طويلِ

ولا تظننّ بربك ظنّ سوء *** فإنّ الله أولى بالجميل

فإنّ العسرَ يتبعه يسارٌ *** وقول الله أصدق كلِّ قيل

وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني محمد بن سليمان بن معاد الكرخي قال : أنشدنا أبو بكر الأنباري :

إذا بلغ العسر مجهوده *** فثق عند ذاك بيسر سريع

ألم تر بخس الشتاء القطيع *** يتلوه سعد الربيع البديع

ولزيد بن محمد العلوي :

إن يكنْ نالك الزمان ببلوى *** عظمت شدّةً عليك وجلّتْ

وتلتها قوارع باكيات *** سئمت دونها الحياة وملّت

فاصطبر وانتظر بلوغ مداها *** فالرزايا إذا توالت تولّت

وإذا أوهنت قواك وحلّت *** كُشفتْ عنك جملة فتخلّت

وقال آخر :إذا الحادثات بلغن المدى *** وكادت تذوب لهنّ المهجْ

وحلّ البلاء وقلّ الرجاء *** فعند التناهي يكون الفرجْ

وأنشدني أبو القاسم الحسن بن محمد السلوسي قال : أنشدني أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي النسابة قال : أنشدني سليمان بن أحمد الرقي :

توقع إذا ما عرتك الخطوب *** سروراً ( يسيّرها ) عنك قسراً

ترى الله يخلف ميعاده *** وقد قال : إنّ مع العسر يُسراً