مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا} (6)

قوله تعالى : { فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن المشركين كانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر ، ويقولون : إن كان غرضك من هذا الذي تدعيه طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة ، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سبق إلى وهمه أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لكونه فقيرا حقيرا عندهم ، فعدد الله تعالى عليه مننه في هذه السورة ، وقال : { ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك } أي ما كنت فيه من أمر الجاهلية ، ثم وعده بالغنى في الدنيا ليزيل عن قلبه ما حصل فيه من التأذي بسبب أنهم عيروه بالفقر ، والدليل عليه دخول الفاء في قوله : { فإن مع العسر يسرا } كأنه تعالى قال : لا يحزنك ما يقول وما أنت فيه من القلة ، فإنه يحصل في الدنيا يسر كامل .

المسألة الثانية : قال ابن عباس : يقول الله تعالى : خلقت عسرا واحدا بين يسرين ، فلن يغلب عسر يسرين ، وروى مقاتل عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : " لن يغلب عسر يسرين " وقرأ هذه الآية ، وفي تقرير هذا المعنى وجهان ( الأول ) : قال الفراء والزجاج : العسر مذكور بالألف واللام ، وليس هناك معهود سابق فينصرف إلى الحقيقة ، فيكون المراد بالعسر في اللفظين شيئا واحدا . وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير ، فكان أحدهما غير الآخر ، وزيف الجرجاني هذا وقال : إذا قال الرجل : إن مع الفارس سيفا ، إن مع الفارس سيفا ، يلزم أن يكون هناك فارس واحد ومعه سيفان ، ومعلوم أن ذلك غير لازم من وضع العربية ( الوجه الثاني ) : أن تكون الجملة الثانية تكريرا للأولى ، كما كرر قوله : { ويل يومئذ للمكذبين } ويكون الغرض تقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب ، كما يكرر المفرد في قولك : جاءني زيد زيد ، والمراد من اليسرين : يسر الدنيا وهو ما تيسر من استفتاح البلاد ، ويسر الآخرة وهو ثواب الجنة ، لقوله تعالى : { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } وهما حسن الظفر وحسن الثواب ، فالمراد من قوله : «لن يغلب عسر يسرين » هذا ، وذلك لأن عمر الدنيا بالنسبة إلى يسر الدنيا ، ويسر الآخرة كالمغمور القليل ، وههنا سؤالان :

الأول : ما معنى التنكير في اليسر ؟ ( جوابه ) : التفخيم ، كأنه قيل : إن مع اليسر يسرا

{ إن مع العسر يسرا } عظيما ، وأي يسر .

السؤال الثاني : اليسر لا يكون مع العسر ، لأنهما ضدان فلا يجتمعان ( الجواب ) : لما كان وقوع اليسر بعد العسر بزمان قليل ، كان مقطوعا به فجعل كالمقارن له .