ثم بين - سبحانه - أنه لا تبعة على المؤمنين ما داموا قد أعرضوا عن مجلس الخائضين فقال - تعالى - { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
أى : وما على الذين يتقون الله شىء من حساب الخائضين على ما ارتكبوا من جرائم وآثام ما داموا قد أعرضوا عنهم ، ولكن عليهم أن يعرضوا عنهم ويذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير لعل أولئك الخائضين يجتنبون ذلك ، ويتقون الله فى أقوالهم وأفعالهم .
وعليه يكون الضمير فى قوله : { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يعود على الخائضين .
وقيل يجوز أن يكون الضمير فى قوله : { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } للذين اتقوا أى : عليهم أى يذكروا أولئك الخائضين ، لأن هذا التذكير يجعل المتقين يزدادون إيمانا على إيمانهم ، ويثبتون على تقواهم .
روى البغوى عن ابن عباس قال : لما نزلت : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } . . إلخ قال المسلمون : كيف نقعد فى المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبداً ؟ فأنزل الله - تعالى - { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } يعنى إذا قمتم عنهم فما عليكم تبعة ما يقولون ، وما عليكم نصيب من إثم ذلك الخوض .
قال الجمل : قوله ( ولكن ذكرى ) فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنها منصوبة على المصدر بفعل مضمر وقدره بعضهم أمراً ، أى : ولكن ذكروهم ذكرى ، وبعضهم قدره خبراً . أى : ولكن يذكرونهم ذكرى .
والثانى : أنه مبتدأ خبره محذوف : أى : ولكن عليكم ذكرى ، أى : تذكيرهم .
والثالث : أنه خبر لمبتدأ محذوف أى : هو ذكرى أى : النهى عن مجالستهم والامتناع منها ذكرى .
والرابع : أنه عطف على موضع شىء المجرور بمن أى : ما على المتقين من حسابهم شىء ولكن عليهم ذكرى فيكون من عطف المفردات وأما على الأوجه السابقة فهو من عطف الجمل " .
وقوله : { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } أي : إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك ، فقد برئوا من عهدتهم ، وتخلصوا من إثمهم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السُّدِّي ، عن أبي مالك وسعيد بن جُبَيْر ، قوله : { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } قال : ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك ، أي : إذا تجنبتهم وأعرضت عنهم .
وقال آخرون : بل معناه : وإن جلسوا معهم ، فليس عليهم من حسابهم من شيء . وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية ، وهي قوله : { إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } [ النساء : 140 ] . قاله مجاهد ، والسُّدِّي ، وابن جُرَيْج ، وغيرهم . وعلى قولهم ، يكون قوله : { وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : ولكن أمرناكم{[10831]} بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا لهم عما هم فيه ؛ لعلهم يتقون ذلك ، ولا يعودون إليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا عَلَى الّذِينَ يَتّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ وَلََكِن ذِكْرَىَ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ومن اتقى الله فخافه فأطاعه فيما أمره به واجتنب ما نهاه عنه ، فليس عليه بترك الإعراض عن هؤلاء الخائضين في آيات الله في حال خوضهم في آيات الله شيء من تبعه فيما بينه وبين الله ، إذا لم يكن تركه الإعراض عنهم رضا بما هم فيه وكان الله بحقوقه متقيا ، ولا عليه من إثمهم بذلك حرج ، ولكن لِيُعْرِضوا عنهم حينئذ . ذِكْرَى لأمر الله . لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ يقول : ليتقوا . ومعنى الذكرى : الذكرُ ، والذكر والذكرى بمعنى وقد يجوز أن يكون ذكرى في موضع ورفع فأما النصب فعلى ما وصفت من تأويل : ولكن ليعرضوا عنهم ذكري وأما الرفع فعلى تأويل : وما على الذين يتقون من حسابهم شيء بترك الإعراض ، ولكن إعراضهم ذكرى لأمر الله لعلهم يتقون . وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالقيام عن المشركين إذا خاضوا في آيات الله ، لأنه قيامه عنهم كان مما يكرهونه ، فقال الله له : إذا خاضوا في آيات الله فقم عنهم ليتقوا الخوض فيها ويتركوا ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عنا بن جريج ، قال : كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه ، فإذا سمعوا استهزءوا ، فنزلت : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ . . . الاَية ، قال : فجعل إذا استتهزءوا قام فحذروا وقالوا : لا تستهزءوا فيقوم فذلك قوله : لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ أن يخوضوا فيقوم . ونزل : وَمَا عَلَى الّذِينَ يَتّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إن قعدوا معهم ، ولمن لا تقعدوا . ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة : وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتى يَخُوضُوا فِي حَديثٍ غيرِهِ إنّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ ، فنسخ قوله : وَمَا عَلَى الّذِينَ يَتّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ . . . الاَية .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : وَمَا عَلَى الّذِينَ يَتّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يقوله : من حساب الكفار من شيء . وَلَكِنْ ذِكْرَى يقول : إذا ذكرتُ فقم . لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ مساءتكم إذا رأوكم لا تجالسونهم ، استحيوا منكم فكفوا عنكم . ثم نسخها الله بعد ، فنهاهم أن يجلسوا معهم أبدا ، قال : وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِها . . . الاَية .
حدثني محمد بن عروة ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَمَا عَلَى الّذِينَ يَتّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إن قعدوا ، ولكن لا تقعد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك : وَمَا عَلَى الّذِينَ يَتّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى قال : وما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك .
{ وما على الذين يتقون } وما يلزم المتقين من قبائح أعمالهم وأقوالهم الذين يجالسونهم . { من حسابهم من شيء } شيء مما يحاسبون عليه . { ولكن ذكرى } ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى ويمنعوهم عن الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها وهو يحتمل النصب على المصدر والرفع ولكن عليهم ذكرى ، ولا يجوز عطفه على محل من شيء لأن من حسابهم يأباه ولا على شيء لذلك ولأن من لا تزاد في الإثبات . { لعلهم يتقون } يجتنبون ذلك حياء أو كراهة لمساءتهم ، ويحتمل أن يكون الضمير للذين يتقون والمعنى : لعلهم يثبتون على تقواهم ولا تنثلم بمجالستهم . روي : أن المسلمين قالوا لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ، ونطوف فنزلت .
لمَّا كان الإعراض عن مجالس الذين يخوضون بالطعن في الآيات قد لا يحول دون بلوغ أقوالهم في ذلك إلى أسماع المؤمنين من غير قصد أتْبع الله النهي السابق بالعفو عمَّا تتلقَّفه أسماع المؤمنين من ذلك عَفْواً ، فتكون الآية عذراً لما يطرق أسماعَ المؤمنين من غير قعودهم مع الطاعنين .
والمراد ب { الَّذين يتَّقون } المؤمنون ، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أوّل المتَّقين ، فالموصول كتعريف الجنس فيكون شاملاً لجميع المسلمين كما كان قوله { فأعرض عنهم } [ الأنعام : 68 ] حكمه شاملاً لبقية المسلمين بحكم التبع . وقال جمع من المفسّرين : كانت آية { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } [ الأنعام : 68 ] خاصّة بالنبي صلى الله عليه وسلم وجاء قوله تعالى : { وما على الذين يتَّقون من حسابهم من شيء } رخصة لغير النبي من المسلمين في الحضور في تلك المجالس لأنّ المشركين كان يغضبهم قيام النبي من مجالسهم . ونسب هذا إلى ابن عبَّاس ، والسديّ ، وابن جبير ، فيكون عموم الموصول في قوله : { الذين يتَّقون } مخصوصاً بما اقتضته الآية التي قبلها .
وروى البغوي عن ابن عبَّاس قال : لمَّا نزلت { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } [ الأنعام : 68 ] قال المسلمون : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبداً . فأنزل الله عزّ وجلّ { وما على الذين يتّقون من حسابهم من شيء } يعني إذا قمتم عنهم فما عليكم تبعةُ ما يقولون في حال مجانبتكم إيَّاهم إذ ليس عليكم جرى ذلك وما عليهم أن يمنعوهم .
وقوله : { وما على الذين يتّقون من حسابهم من شيء } تقدّم تفسير نظيره آنفاً ، وهو قوله : { ما عليك من حسابهم من شيء } [ الأنعام : 68 ] .
ثمّ الحساب هنا مصدر مضاف إلى ضمير الذين يخوضون في الآيات . فهذا المصدر بمنزلة الفعل المبني للمجهول فيحتمل أن يكون فاعله { الذين يتَّقون } على وزان ما تقدّم في قوله : { ما عليك من حسابهم من شيء } [ الأنعام : 52 ] ، أي ما على الذين يتَّقون أن يحاسِبُوا الخائضين ، أي أن يمنعوهم من الخوض إذ لم يكلّفهم الله بذلك لأنَّهم لا يستطيعون زجر المشركين ، ويحتمل أن يكون فاعله الله تعالى كقوله : { ثمّ إنّ علينا حسابهم } [ الغاشية : 26 ] أي ما على الذين يتَّقون تبعة حساب المشركين ، أي ما عليهم نصيب من إثم ذلك الخوض إذا سمعوه .
وقوله : { ولكن ذكرى } عطفت الواو الاستدراكَ على النفي ، أي ما عليهم شيء من حسابهم ولكن عليهم الذكرى . والذكرى اسم مصدر ذكَّر بالتشديد بمعنى وعظ ، كقوله تعالى : { تبصرة وذكرى لكلّ عبد منيب } [ ق : 8 ] ، أي عليهم إن سمعُوهم يستهزئون أن يعظُوهم ويُخوّفوهم غضب الله فيجوز أن يكون { ذكرى } منصوباً على المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله . والتقدير : ولكن يُذكّرونهم ذكرى . ويجوز أن يكون ذكرى مرفوعاً على الابتداء ، والتقدير : ولكن عليهم ذكرى .
وضمير { لعلَّهم يتَّقون } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { حسابهم } أي لعلّ الذين يخوضون في الآيات يتَّقون ، أي يتركون الخوض . وعلى هذا فالتقوى مستعملة في معناها اللغوي دون الشرعي . ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى { الذين يتَّقون } ، أي ولكن عليهم الذكرى لعلَّهم يتَّقون بتحصيل واجب النهي عن المنكر أو لعلَّهم يستمرّون على تقواهم .
وعن الكسائي : المعنى ولكن هذه ذكرى ، أي قوله : { وإمَّا ينسينَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } [ الأنعام : 68 ] تذكرة لك وليست مؤاخذة بالنسيان ، إذ ليس على المتَّقين تبعة سماع استهزاء المستهزئين ولكنّا ذكَّرناهم بالإعراض عنهم لعلَّهم يتَّقون سماعهم .
والجمهور على أنّ هذه الآية ليست بمنسوخة . وعن ابن عبَّاس والسدّي أنَّها منسوخة بقوله تعالى في سورة [ النساء : 140 ] { وقد نزّل عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتم آيات الله يُكْفَرُ بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتَّى يخُوضُوا في حديث غيره إنَّكم إذن مثلهم بناء على رأيهم أنّ قوله : { وما على الذين يتَّقون من حسابهم من شيء } أباح للمؤمنين القعود ولم يمنعه إلاّ على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } [ الأنعام : 68 ] كما تقدّم آنفاً .