التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُواْ وَٱصۡفَحُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (109)

{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم . . . }

معنى الآية الكريمة : أحب وتمنى عدد كثير من اليهود الذين هم أهل كتاب ، أن ينقلوكم أيها المؤمنون من الإِيمان إلى الكفر ، حسداً لكم وبغضاً لدينكم ، من بعد ما ظهر لهم أنكم على الحق باتباعكم محمدا صلى الله عليه وسلم فلا تهتموا بهم ، بل قابلوا أحقادهم وضرورهم بترك عقابهم ، والإِعراض عن أذاهم ، حتى يأذن لاله لكم فيهم بما فيه خيركم ونصركم ، فإنه - سبحانه - على كل شيء قدير " .

وقوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً } بيان للون من ألوان الشرور التي يضمرها أهل الكتاب وعلى رأسهم اليهود ، وهو تمنيهم ارتداد المسلمين عن دينهم الحق ، إلى الكفر الذي أنقذهم الله - تعالى - منه .

وإنما أسند - سبحانه - هذا التمني الذميم إلى الكثرة منهم ، انصافاً للقلة المؤمنة التي لم ترتض أن ينتقل المسلمون إلى الكفر بعد أن هداهم الله إلى الإِسلام .

وقوله تعالى : { بَعْدِ إِيمَانِكُمْ } مبالغة في ذمهم بسبب ما تمنوه وأحبوه إذ ودوا - وهم أهل كتاب - أن يحل الكفر محل الإِيمان ، وفيه إشعار بأن ما تمنوه بعيد الحصول ؛ لأن الإِيمان متى خالطت بشاشته القلوب ، منع صاحبه من الانتقال إلى الكفر .

ثم بين - سبحانه - أن الذي حملهم على هذا التمني الذميم هو الحقد والحسد ، فقال تعالى : { حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق } أي : أن هذا التمني لم يكن له من سبب أو علة سوى الحسد الذي استولى على نفوسهم ، واستحوذ على قلوبهم فجعلهم يحسدون المؤمنين على نعمة الإِيمان ويتمنون التحول عنه إلى الكفر ، فالجملة الكريمة علة لما تضمنته الجملة السابقة ، من محبتهم نقل المؤمنين إلى الكفر .

قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين : " والحسد : قلق النفس من رؤية نعمة يصيبها إنسان ، وينشأ عن هذا القلق تمنى زوال تلك النعمة عن الغير وتمني زوال النعم مذموم بكل لسان ، إلا نعمة أصابها فاجر أو جائر يستعين بها على الشر والفساد ، فإن تمنى زوالها كراهية للجور والفساد لا يدخل في قبيل الحسد المذموم فإن لم تتمن زوال النعمة عن شخص وإنما تمنيت لنفسك مثلها فهي الغبطة والمنافسة ، وهي محمودة لأنها قد تنتهي بالشخص إلى اكتساب محامد لولا المنافسة لظل في غفلة عنها ، والحسد قد يهجم على الإِنسان ولا يكون في وسعه دفعه لشدة النفرة بينه وبين المحسود ، وإنما يؤاخذ الإِنسان على رضاه به ، وإظهار ما يستدعيه من القدح في المحسود ، والقصد إلى إزالة النعمة عنه " .

وقوله تعالى : { مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } إعلام للمؤمنين ، بأن هؤلاء اليهود لم يؤمروا بذلك في كتابهم ، بل إن كتابهم لينهاهم عن هذا الخلق الذميم ولكنهم لخبث نفوسهم وسوء طباعهم رسخ الحسد في قلوبهم لدرجة يعسر معها صرفه عنهم ، أو صرفهم عنه .

والجملة الكريمة { حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } تدل على أن أولئك اليهود يعتقدون صحة دين الإِسلام ، إذ الإِنسان لا يحسد غيره على دين إلا إذا عرف في نفسه صحته ، وأنه طريق الفوز والفلاح .

وقوله تعالى : { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق } يدل على أن محبة اليهود لتحويل المؤمنين من الكفر إلى الإِيمان وقعت ، بعد أن ظهر لهم صدق النبي صلى الله عليه وسلم بوعد أن تبين لهم أن الصفات التي وردت في التوراة بشأن المبشر به ، لا تنطبق إلا عليه ، وإذا فكفرهم به لم يكن عن جهل وإنما كان عن عناد وجمود على الباطل ، وذلك هو شأن أحبارهم الذين كانوا على علم بالتوراة ، وبتبشيرها بالنبي صلى الله عليه وسلم .

ثم أمر الله تعالى المؤمنين في ختام الآية أن يقابلوا شرور اليهود بالعفو والصفح ، وأن يوادعوهم إلى حين فقال تعالى : { فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

والعفو : ترك العقاب على الذنب . والصفح : ترك المؤاخذة عليه ، فكل صفح عفو ولا عكس .

والمعنى : عليكم أيها المؤمنون أن تتركو معاقبة أولئك اليهود الحاسدين وأن تعرضوا عن رفع السيف في وجوههم حتى يأذن الله لكم في أن تشفو صدوركم منهم ، ويبيح قتالهم الذي يترتب عليه نصركم ، إذ أن كل شيء داخل تحت سلطان قدرته - تعالى - .

فالمراد بالأمر في قوله تعالى : { حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِه } الإِذن للمسلمين بقتالهم في الوقت الذي يختاره الله - تعالى - لهم ، عند ما تكون لهم القوة التي يتمكنون بها من جهاد أعدائهم .

قال صاحب المنار : قال الأستاذ الإِمام : " وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة لأن الصفح إنما يطلب من القادر على خلافه كأنه يقول : لا يغرنكم أيها المؤمنون كثرة أهل الكتاب مع باطلهم ، فإنكم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق ، فعاملوهم معاملة القوي العادل ، للضعيف الجاهل وفي إنزال المؤمنين على قلتهم منزلة الأقوياء ، ووضع أهل الكتاب على كثرتهم موضع الضعفاء ، إيذان بأن أهل الحق هم المؤيدون بالعناية الإِلهية ، وأن العزة لهم ما ثبتوا على حقهم ، ومهما يتصارع الحق والباطل فإن الحق هو الذي يصرع الباطل كما قلنا غيره مرة ، وإنما بقاء البالط في غفلة الحق عنه " .

وقد أكد الله - تعالى - وعده بقوله : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي أن كل شيء داخل تحت قدرته النافذة التي لا يعجزها شيء .

وقد أنجز الله - تعالى - وعده ، فأذن للمؤمنين في الوقت المناس بقتال اليهود وتأديبهم ، وقد ترتب على ذلك النصر للمؤمنين ، والطرد والقتل لليهود الحاقدين .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُواْ وَٱصۡفَحُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (109)

يحذر تعالى{[2516]} عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب ، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين ، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم . ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال ، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح . ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه ، كما قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان حُيَيُّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهودَ للعرب حسدًا ، إذْ خَصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جَاهدَين في ردِّ الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } الآية .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر عن الزهري ، في قوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } قال : هو كعب بن الأشرف .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه : أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا ، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه{[2517]} أنزل الله : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } إلى قوله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا }

وقال الضحاك ، عن ابن عباس : أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل{[2518]} والآيات ، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ، ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا ؛ ولذلك قال

الله تعالى : { كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } يقول : من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا ، ولكن الحسد حملهم على الجحود ، فعيرَّهم ووبخهم ولامهم أشدَّ الملامة ، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل{[2519]} عليهم وما أنزل من قبلهم ، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم .

وقال الربيع بن أنس : { مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } من قبل أنفسهم . وقال أبو العالية : { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } من بعد ما تبين [ لهم ]{[2520]} أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فكفروا به حسدا وبغيًا ؛ إذ كان من غيرهم . وكذا قال قتادة والربيع والسدي .

وقوله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } مثل قوله تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ } [ آل عمران : 186 ] .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } نسخ ذلك قوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وقوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى قوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] فنسخ هذا عفوه عن المشركين . وكذا قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي : إنها منسوخة بآية السيف ، ويرشد إلى ذلك أيضًا قوله : { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان{[2521]} أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عُرْوَة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوَّل من العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم بقتل ، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش{[2522]} .

وهذا إسناده{[2523]} صحيح ، ولم أره في شيء من الكتب الستة [ ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ]{[2524]} .


[2516]:في جـ: "يحذر تبارك وتعالى".
[2517]:في ط، ب: "وفيهم".
[2518]:في جـ، ط، ب: "من الرسل والكتب".
[2519]:في جـ، ط، أ، و: "أنزل الله".
[2520]:زيادة من ب، أ، و.
[2521]:في أ: "أبو الوليد".
[2522]:تفسير ابن أبي حاتم (1/333).
[2523]:في ط، ب: "وهذا إسناد".
[2524]:زيادة من جـ، ط.