التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

ولم يترك القرآن الكريم تلك الشبهات التي أثارها اليهود حول شريعة الإسلام بدون جواب ، بل أنزل الله - تعالى - آيات كريمة لدحضها وإزالتها من الصدور ، ليزداد المؤمنون إيماناً ، وهذه الآيات هي قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ . . . }

النسخ في اللغة الإِبطال والإزالة ، يقال . نسخت الشمس الظل تنسخه ، إذا أذهبته وأبطلته .

وفي عرف الشرع : بيان انتهاء مدة الحكم بخطاب لولا هذا الخطاب لاستمر الحكم على مشروعيته ، بمقتضى النص الذي تقرر به أولا .

وننسها من أنسى الشيء جعله منسياً .

فمعنى نسخ الآية في قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } رفع حكها مع بقائها .

ومعنى إنسائها في قوله - تعالى - : { نُنسِهَا } رفع الآية من نظم القرآن جملة .

وسمي رفع الآية من نظم القرآن جملة إنساء ، لأن من شأن ما لا يبقى في النظم أن ينساه الناس لقلة جريانه على الألسنة بالتلاوة والاحتجاج به .

ويصح إبقاء الإِنساء على حقيقته ، وهو إذهاب الآية من القلوب وإزالتها من الحافظة ، بعد أن يقضي الله بنسخها .

وإنما قلنا بعد أن يقضي الله بنسخها ، لأن إنساء الناس آية لم تنسخ إضاعة لشيء من القرآن ، والله يقول { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ومما يدل على نسخ الآية المنساة ، أي : انتهاء مدة التكليف بها قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } أي نأت بخير من المنسية المنسوخة أو مثلها ، فيكون قوله تعالى : { أَوْ نُنسِهَا } معبراً عن حالة تعرض في بعض ما سيرفع من القرآن وهي أن ينساه الناس لذهابه من قلوبهم ، بعد أن يقضي الله بنسخه - كما ذكرنا- .

ووجه ذكر هذه الحال بوجه خاص ، أن ما ينسى لعدم حضوره في الذهن لا تعرف الآيات التي تقوم مقامه ، فربما يقع في الوهم أنه ذهب من غير أن ينزل من الآيات ما يغني غناءه .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { نُنسِهَا } بالهمزة ، من النساء وهو التأخير وعلى هذه القراءة يحمل النسخ في قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } على النوعين السابقين وهما : نسخ الآية حكما فقط ، ونسخها حكماً وتلاوة .

ومعنى { نُنسِهَا } تؤخر إنزالها إلى وقت ثان فلا ننزلها ، وننزل ما يقوم مفامها في القيام بالمصلحة .

والخيرية والمماثلة في قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ترجع إلى ثواب العمل بها . فقد يكون ثواب العمل بالناسخة أوفر من ثواب العمل بالمنسوخة قبل نسخها ، وقد يكون مماثلا له ، وإن كانت كل واحدة من الآيتين الناسخة والمنسوخة بالنظر إلى الوقت المقدر للعمل بها ، أقوم على المصلحة من الأخرى .

وبعد أن أثبت - سبحانه - أن النسخ جائز وواقع بقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ساق جملة كريمة في صورة الاستفهام التقريري ، مخاطباً بها الأمة الإسلامية في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم لتكون دليلا على هذا الثبوت ، وهذه الجملة هي قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } والمعنى أن الله - تعالى - متمكن من أن يفعل ما يشاء على الوجه الذي تقتضيه حكمته وإرادته ، ومن كان هذا شأنه فله أن يأمر في وقت بأمر ، ثم ينسخه أو يستبدل به آخر لمقتضيات الظروف والأحوال .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما نبدل من آية .

وقال ابن جُرَيج ، عن مجاهد : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي : ما نمح من آية .

وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } قال : نثبت خطها ونبدل حكمها . حَدَّث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود .

وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية ، ومحمد بن كعب القرظي ، نحو ذلك .

وقال الضحاك : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما نُنْسِكَ . وقال عطاء : أما { مَا نَنْسَخْ } فما نترك{[2484]} من القرآن . وقال ابن أبي حاتم : يعني : تُرِكَ فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال السدي : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } نسخها : قبضها . وقال ابن أبي حاتم : يعني : قبضها : رفعها ، مثل قوله : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة . وقوله : " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثًا " .

وقال ابن جرير : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره ، وذلك أن يُحوَّل الحلالُ حرامًا والحرام حلالا والمباح محظورًا ، والمحظور مباحًا . ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة . فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ . وأصل النسخ من نسخ الكتاب ، وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره ، إنما هو تحويله ونقل عبَادَة إلى غيرها . وسواء نسخ حكمها أو خطها ، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة . وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ ، والأمر في ذلك قريب ؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولخَّص{[2485]} بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر . فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل ، وعكسه ، والنسخ لا إلى بدل . وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوط في فَنِّ أصول الفقه .

وقال الطبراني : حدثنا أبو شبيل{[2486]} عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد ، حدثنا أبي ، حدثنا العباس بن الفضل ، عن سليمان بن أرقم ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها ، فقاما ذات ليلة يصليان ، فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها مما نسخ وأنسي ، فالهوا عنها " . فكان الزهري يقرؤها : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا }{[2487]} بضم النون خفيفة{[2488]} . سليمان بن أرقم ضعيف .

[ وقد روى أبو بكر بن الأنباري ، عن أبيه ، عن نصر بن داود ، عن أبي عبيد ، عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن يونس وعبيد وعقيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعًا ، ذكره القرطبي{[2489]} ]{[2490]} .

وقوله تعالى : { أَوْ نُنْسِهَا }{[2491]} فقرئ على وجهين : " ننسأها ونُنْسها " . فأما من قرأها : " نَنسأها " - بفتح النون والهمزة بعد السين - فمعناه : نؤخرها . قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسئهَا } يقول : ما نبدل من آية ، أو نتركها لا نبدلها .

وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود : { أَوْ نُنسِئَهَا } نثبت خطها ونبدل حكمها . وقال{[2492]} عبيد بن عمير ، ومجاهد ، وعطاء : { أَوْ نُنسِئَهَا } نؤخرها ونرجئها . وقال عطية العوفي : { أَوْ نُنسِئَهَا } نؤخرها فلا ننسخها . وقال السدي مثله أيضا ، وكذا [ قال ]{[2493]} الربيع بن أنس . وقال الضحاك : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِئَهَا } يعني : الناسخ من المنسوخ . وقال أبو العالية : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِئَهَا } أي : نؤخرها عندنا .

وقال ابن حاتم : حدثنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي ، حدثنا خلف ، حدثنا الخفاف ، عن إسماعيل - يعني ابن مسلم - عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال :

خطبنا عمر ، رضي الله عنه ، فقال : يقول الله عز وجل : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } أي : نؤخرها .

وأما على قراءة : { أَوْ نُنْسِهَا } فقال عبد الرزاق ، عن قتادة في قوله : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } قال : كان الله تعالى ينسي نبيه ما يشاء وينسخ ما يشاء .

وقال ابن جرير : حدثنا سواد{[2494]} بن عبد الله ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا عوف ، عن الحسن أنه قال في قوله : { أَوْ نُنْسِهَا }{[2495]} قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ثم نسيه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نُفَيل ، حدثنا محمد بن الزبير الحراني ، عن الحجاج - يعني الجزري{[2496]} - عن عِكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل الله ، عز وجل : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }

قال أبو حاتم : قال لي أبو جعفر بن نفيل : ليس هو الحجاج بن أرطاة ، هو شيخ لنا جَزَري .

وقال عبيد بن عمير : { أَوْ نُنْسِهَا } نرفعها من عندكم .

وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيْم ، عن يعلى بن عطاء ، عن القاسم بن ربيعة قال : سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ : " ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَو تَنْسَهَا " قال : قلت له : فإن سعيد بن المسيَّب يقرأ : " أَو تُنْسَأها " . قال : فقال{[2497]} سعد : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ، قال الله ، جل ثناؤه : { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى } [ الأعلى : 6 ]{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [ الكهف : 24 ]{[2498]} .

وكذا رواه عبد الرزاق ، عن هشيم{[2499]} وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي ، عن آدم ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، به . وقال : على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن محمد بن كعب ، وقتادة وعكرمة ، نحو قول سعيد .

وقال الإمام أحمد : أخبرنا يحيى ، حدثنا سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال عمر : عليٌّ أقضانا ، وأُبيٌّ أقرؤنا ، وإنا لندع بعض ما يقول أُبيُّ ، وأبيّ يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، فلن أدعه لشيء . والله يقول : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِئَها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } .

قال البخاري : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال عمر : أقرؤنا أُبيٌّ ، وأقضانا علي ، وإنا لندع من قول أبيّ ، وذلك أن

أبيا يقول : لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد قال الله : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا }{[2500]}

وقوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } أي : في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } يقول : خير لكم في المنفعة ، وأرفق بكم .

وقال أبو العالية : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } فلا نعمل بها ، { أَوْ نُنسئهَا } أي : نرجئها{[2501]} عندنا ، نأت بها أو نظيرها .

وقال السدي : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول : نأت بخير من الذي نسخناه ، أو مثل الذي تركناه .

وقال قتادة : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول : آية فيها تخفيف ، فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي .

107


[2484]:في أ: "فما ترك".
[2485]:في ط: "ويخص".
[2486]:في هـ: "أبو سنبل" وهو خطأ.
[2487]:في ط: "أو ننسيها".
[2488]:المعجم الكبير (12/288).
[2489]:ورواه الطحاوى في مشكل الآثار برقم (2034) من طريق ابن وهب، عن يونس عن ابن شهاب، عن أبي أمامة به، وبرقم (2035) من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن أبي أمامة به.
[2490]:زيادة من جـ، ط.
[2491]:في ط، ب، أ: "أو ننساها".
[2492]:في جـ، ط، أ: "وكما قال".
[2493]:زيادة من أ.
[2494]:في جـ، ط، ب، أ، و: "حدثنا سوار".
[2495]:في جـ، ب، أ: "أو ننسئها".
[2496]:في جـ: "الجوزي".
[2497]:في جـ: "فقال قال".
[2498]:تفسير الطبري (2/475).
[2499]:تفسير عبد الرزاق (1/75).
[2500]:صحيح البخاري برقم (4481).
[2501]:في جـ: "نؤخرها"، وفي أ: "نركثها".